مفهوم أن الدول لا تدير شؤونها الداخلية والخارجية بالعواطف والأمنيات، بل تديرها بحسابات سياسية فيها كثير من التركيب والتعقيد، لتضمن الاستقرار والاستمرار.
الأردن ليس بِدعًا من الدول، وكما هو مفترض، لن يكون مختلفًا أو متفردًا عن غيره، فهو أيضًا لا يدير شؤونه بأسلوب وقواعد العاطفة والأمنيات، وإنما وفقًا لحسابات سياسية دقيقة.
هذه الحسابات تفرضها معطيات الجغرافيا والديمغرافيا والإمكانات والقدرات وموازين القوى الإقليمية والدولية، وهي جميعها مؤثرات أساسية عند تصميم السياسات واتخاذ القرارات.
وأي تفكير أو نقاش موضوعي عقلاني، من مؤيد أو معارض، لا يمكنه، بل لا يجوز له، القفز فوق تلك المعطيات ومؤثراتها، ومن يفعلها ويقفز فهو يغامر، ولن أقول يقامر، باستقرار الدولة واستمرارها.
وكي تكتمل الصورة وتتوضح ملامحها؛ فالأمر يحتاج مراجعات جوهرية يشترك فيها الجميع، وحتى يكون الجميع على بيّنة من حجم التعقيدات السياسية ومصاعبها، ومن ثم يسهم هذا الجميع في تحديد طرق الاشتباك مع التعقيدات ومخاطرها على أساس يضمن تعظيم قوة الدولة.
ماذا يعني ذلك..؟
من الآن، وإلى أن تجري الانتخابات النيابية تحتاج الدولة، بكل مؤسساتها الرئيسية، أن تراجع وتقيم المرحلة السابقة تقييمًا مهنيًا حرفيًا موضوعيًا لإعادة اكتشاف عناصر القوة والضعف.
وبشكل أساسي؛ مراجعة وتقييم متغيرات معطياتها الجغرافية والديمغرافية وقدراتها وإمكاناتها والتوازنات الإقليمية والدولية، فهذه مسألة ملحة وأساسية في تطوير السياسات والمقاربات وآليات صناعة القرارات ومحتواها.
بمعنى أن التقييم المهني والحِرفي والموضوعي من شأنه المساعدة في تحديد قواعد وأساليب الاشتباك مع ملفات الداخل والخارج، ويتيح للدولة التحرك في كل الشؤون وفقًا لاستراتيجيات وتكتيكات وبدائل مدروسة ومحسوبة بدقة وبعقلانية.
هذا يؤدي إلى أمرين:
الأول: أن تستكشف الدولة واقعها والظروف المحيطة بها؛ حجم التغيرات الداخلية ومقدار تطورها في كل الشؤون السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وفي مقدار الوعي الشعبي العام ومستوياته وحجم المؤثرات فيه.
كذلك؛ تستكشف الدولة حجم الانعكاسات التي أفرزتها المتغيرات الإقليمية والدولية على كل شؤونها ومصالحها، ومقدار ملاءمة السياسات الفاعلة راهنًا في الاشتباك مع هذه المتغيرات.
والأمر الآخر: تقف الدولة على إمكانيات أدواتها التنفيذية وقدراتها ومدى فعاليتها، لأن أي سياسات وقرارات مهما كانت عميقة وقوية لن تعطي النتائج المطلوبة إذا قام عليها فريق تنفيذي ضعيف القدرات والإمكانات ولا يتمتع بالذكاء وسعة الأفق والحنكة المفترضة.
نعم، مرحلة ما بعد الانتخابات النيابية لا بد وأن تكون مختلفة في فهم الواقع محليًا وإقليميًا ودوليًا، وهو الفهم الذي يفترض أن يؤدي إلى سياسات خلّاقة وإبداعية متطورة.
ويؤدي أيضًا إلى إنتاج طبقة حكم مختلفة يتم اختيارها وفقا لمفهوم رجال الدولة وشروط ومتطلبات ذلك، لأن الفرق هائل بين منطق وعقل رجل الدولة ومنطق وعقل الموظف مهما علا موقعه.
تأسيسًا على هذا الوعي، ووفقًا لهذا المنطق، وتبعًا للمكاشفة والوضوح والشفافية في الشؤون العامة، فكل مكونات الدولة، الرسمي منها والشعبي، ستكون على ذات الصفحة تجاه مصالح الدولة.
لأن الجميع عندها سيكون لديهم الوعي الكامل والفهم العميق ليقولوا رأيًا موضوعيًا ويطلقوا أحكامًا منطقية، وتتحول الدولة، ولو نسبيًا، من مجرد متأثِّر بالمتغيرات الإقليمية والدولية، إلى فاعل لديه إمكانية التأثير في هذه المتغيرات.
وفي أقله، يزيد من فعالية تصدي الدولة لتأثيرات هذه المتغيرات وتخفيف تداعياتها، ويرفع قدرتها في دفع مصالحها قُدمًا، ويقوّي عوامل استقرار أمنها القومي ومتطلباته.
إن المرحلة المقبلة من عمر الدولة الأردنية مهمة وفارقة، وتأتي في ظل تحديات إقليمية ودولية هائلة، ومخاطر جمة، وكذلك فرص كامنة، ولا سبيل للتعامل الناجح معها من دون تفاهم الجميع وتفهمهم للواقع الراهن ومآلاته المستقبلية وبموضوعية تامة.