لا شكَّ في أنّ الحراك الطلابي الجامعي في الولايات المتحدة كان ظاهرة مُلْفتة، وقد ذَكّرَ هذا الحراك بمثيله في ستينيات القرن الماضي حين أجبر الولايات المتحدة على الانسحاب من فيتنام في عام 1975، كما ذَكّرَ بشبيهه الذي قاد في النهاية إلى إنهاء الفصل العنصري (Apartheid) في جنوب أفريقيا، ورغم أنّ من السابق لأوانه التنبؤ بمآلات هذا الحراك الطلابي وما الذي يمكن أن يتمخّض عنه فيما يتعلق بإنهاء الحرب العدوانية الإسرائيلية على غزة فإنّ من الممكن إبداء الملاحظات الأولية الآتية عليه:
أولاً: إنّ هذا الحراك حدث فيما يُسمى جامعات "النخبة" الأمريكية (The most prestigious universities) كجامعات "هارفارد"، وجامعة "ييل"، وجامعة "كولومبيا"، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، وبعض هذه الجامعات تُصنّف أولاً على جامعات العالم أجمع كجامعة "هارفارد"، وبعضها يُعّد الأول تقنياً على مستوى العالم كمعهد "MIT"، ومن المعروف أن هذه الجامعات لا تقبل إلّا الطلبة المتفوقين، كما تتميز برسومها العالية، وقدرتها على استقطاب التبرعات السخية.
ثانياً: أنّ هذا الحراك بدأ في جامعة "كولومبيا" في نيويورك لكنه ما لبث أن توسع ليشمل أكثر من (45) جامعة في أكثر من (25) ولاية وعلى امتداد الولايات المتحدة (من نيويورك على الساحل الشرقي إلى كاليفورنيا على الساحل الغربي)، والواقع أنه امتد حتى خارج الولايات المتحدة إذْ شهدت "جامعة السوربون" العريقة في فرنسا مثل هذا الحراك، كما شهدته جامعات مُهمّة في بريطانيا (مانشستر) وكندا (مكغيل)، الأمر الذي يشير بوضوح إلى أن هذه المطالب بوقف الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل في غزة هي ليست مقصورة على طلبة الولايات المتحدة بل هي مطالب جميع الطلبة على مستوى العالم.
ثالثاً: أنّ هذا الحراك الطلابي واجه عنفاً وقمعاً في بلد الحريات والديمقراطية، فرغم أن اعتصامات الطلبة ومظاهراتهم كانت سلمية وبعيدة عن ممارسة "اللاسامية" (شارك فيها بعض الطلبة اليهود وبعض المنظمات اليهودية المعادية للصهيونية) إلّا أنّ الشرطة الأمريكية قامت باعتقال الطلبة (أكثر من 1700 طالب على مستوى الولايات المتحدة)، كما قامت في كثير من الأحيان بدخول الحرم الجامعي وإخراج الطلبة من المباني التي تحصّنوا بها كما حصل في جامعة كولومبيا وإلى درجة أن الأمم المتحدة عبّرت عن "انزعاجها" من الأسلوب الفظ و"الإجراءات القاسية" التي مارستها قوات الأمن الأمريكية ضد الطلبة المحتجين.
رابعاً: أنّ هذا الحراك قد تكون له نتائج سلبية على فرص الحزب الديمقراطي ومرشحه "بايدن"، والواقع أنّ البيت الأبيض عبّر عن "قلقه" رسمياً من هذه الاحتجاجات، كما أن كثيرين من أقطاب الحزب الديمقراطي أبدوا امتعاضهم ممّا يجري في الجامعات الأمريكية مُدركين أن هذه "الفوضى" في الحرم الجامعي الأمريكي في سنة انتخابية كهذه قد تكون ذات مردود جيد للمرشح الجمهوري "ترامب"، وإذا أضفنا هذا العامل إلى تململ "الشباب" و"التقدميين" في الحزب الديمقراطي، وكذلك تململ الأقليات التي تعود إلى أصول عربية وإسلامية في بعض الولايات المتأرجحة فَهِمنا سرّ عدم رضا أقطاب الحزب الديمقراطي عما يسمونه "فوضى" في الجامعات الأمريكية.
وأخيراً فإنّ مما لا شكّ فيه أنّ حراك الطلبة الأمريكيين وما كان له من صدى في العديد من الدول يمثل "تنهيدة" مُترعة بالألم والسخط من السياسات الأمريكية المنحازة انحيازاً أعمى إلى الحرب التي تمارسها إسرائيل في غزة بما كل ما انطوت عليه من مجازر ومُمارسات لا إنسانية بشعة، وهي إذْ تأتي من شريحة شابة ومتعلمة على أعلى مستوى وسوف يكون المستقبل لها يجب أن تعني الكثير لصناع القرار ليس في الولايات المتحدة فقط بل وعلى مستوى العالم أجمع.