بعد مرور عام على انضمام فنلندا إلى حلف الناتو الجاره المتاخمة حدودياً لروسيا والتي تشترك معها بحدود برية تصل إلى 1300 كيلومتر, وقبل شهر انضمت السويد إلى هذا الحلف لتصبح الدولة رقم 32 في عضوية «الناتو»، وقد اكتملت الصورة الغربية بمحاصرة روسيا من جهة الغرب عندما أعلن حلف الناتو بأنه يرغب بإنشاء قاعدة عسكرية في أكبر الجزر السويدية في بحر البلطيق وهي جزيرة جوتلاند، وهذه الجزيرة ذات المساحة 3.1 ألف كم مربع وبتعداد سكاني يبلغ 61 ألف نسمة تقابل كالينيغراد التابعة لروسيا ذات المساحة 15.1 ألف كم مربع وتعداد سكاني 490 ألف نسمة والمطلة على بحر البلطيق حيث تبعد عنها مسافة 320 كيلو متر, وحيث أن الوصول الى كالينيغراد من قبل روسيا من خلال المنفذ البحري من مدينة سانت بطرسبورغ المحاط من الشمال بفنلندا ومن الجنوب بإستونيا وكلاهما من دول حلف الناتو، إذن سيكون المنفذ البحري الروسي والملاحة البحرية من جهة الغرب بإتجاه أوروبا والمحيط الأطلسي بشكل عام وباتجاه كالينيغراد بشكل خاص مهدداً بالكامل وتحت سيطرة حلف الناتو.
إن إجراء الناتو بإنشاء قاعدة عسكرية سيقحم دول البلطيق بالصراعات الجيوسياسية، بين الناتو بقيادة الولايات المتحدة ضد روسيا, فأوروبا التي لم تستفق بعد من صدمة الحرب الروسية–الأوكرانية وما أدت إليه من الإطاحة بإقتصادها ومُعاناة شعوبها، فخطوة كهذه قد تُشعل جبهة حرب أوروبية أُخرى في الشمال وبالتحديد في بحر البلطيق، وحيث أن فنلندا تشترك مع روسيا بحدود برية طويلة، مما يؤدي إلى إستباحة هذه الحدود لحلف الناتو بحجة الدفاع عن الأراضي الفنلندية وحمايتها من خلال تعزيز الناتو لقواته العسكرية وتحشيدها على طول الجبهة الفنلندية ونشر الصواريخ الموجهة تجاه روسيا، وستتأزم الأمور وتتعقد بعد إنشاء قاعدة عسكرية جديدة في الجزيرة السويدية جوتلاند، كل ذلك سيكون له تكلفة مالية للسنوات القادمة، تدفع فاتورتها دول البلطيق على مدار عقد من الزمان قد تصل بين بيع سلاح وتدريب وثمن الحماية الى مئات المليارات من الدولارات، وزيادة التوترات أيضاً مع الجارة الروسية حيث أن إجراءات الحلف قد تؤدي إلى إختراقات للأجواء الروسية بأي لحظة, فما هي الأسباب التي تكمن وراء كل ذلك؟.
إن الأسباب وراء إنشاء القاعدة العسكرية في الجزيرة السويدية تكمن باعتقادي بما يلي:
أولاً: محاولة التضييق على التبادلات التجارية بين روسيا وأوروبا من خلال الممر البحري الغربي من مدينة سانت بطرسبورغ الروسية.
ثانياً: محاولة حصار كالينيغراد وقطع الإمدادات الروسية البحرية عنها.
ثالثاً: تخفيف الضغط على أوكرانيا، وخصوصاً أن الغرب يحاول إطالة هذه الحرب لإستنزاف روسيا إقتصادياً وعسكرياً.
رابعاً: إن إنشاء قاعدة عسكرية جديدة يدفع تكاليفها دول البلطيق بالكامل من تجهيز وخدمات لوجستية وعسكرية وتزويد بالأسلحة المتطورة وتدريب وتكلفة تواجد القوات العسكرية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة عليها, وزيادة مبيعات السلاح من الولايات المتحدة لفنلندا والسويد والنرويج والتي تعتبر من الدول الغنية بمجموع ناتج إجمالي لهذه الدول الثلاثة يبلغ 1.5 ترليون دولار, سيؤدي ذلك إلى زيادة أرباح الشركات العسكرية الأمريكية لتصُب في صالح اقتصاد الولايات المتحدة.
خامساً: سيكون هناك حصار مزدوج لروسيا من الغرب في بحر البلطيق, ومن الشرق في بحر الصين وبحر اليابان، فهناك تحالف أوكوس وتحالف دول شرق آسيا والتي تضم اليابان, كوريا الجنوبية، أستراليا، الفلبين، فيتنام وتايوان لحصار روسيا وحليفتها الصين، وهذا ما رأينا مؤخراً من خلال إجتماع الرئيس الأميركي مع رئيس الوزراء الياباني.
سادساً: السيطرة الكاملة من قبل الولايات المتحدة على السوق الأوروبي التجاري وخصوصاً النفط والغاز.
لكن على الجانب الآخر ماذا ستفعل روسيا مقابل هذا الحصار البحري عليها؟.
إن ما ستفعله روسيا هو إيجاد طُرق بحرية بديلة لتجارتها مع أوروبا بشكل خاص ومع العالم بشكل عام، وهذا ما بدأت تخطط له من خلال إستخدام ممرات بحرية في القطب المتجمد الشمالي، وقد ساعدها على ذلك التغيرات المناخية، والتي أذابت الجليد المُتراكم في بعض المناطق الشمالية ليُسهل على كاسحات الجليد الروسية العملاقة من شق طرق جديدة أمام سفن الشحن الروسية.
وهناك خيار عسكري قد تلجأ له روسيا إذا قام حلف الناتو بإغلاق المنفذ البحري الروسي من جهة الغرب على بحر البلطيق الى إعادة إحتلال إستونيا ولاتفيا ولتوانيا تلك الدول التي انضمت عام 2004 إلى حلف الناتو بعد انفصالها عن الاتحاد السوفييتي سابقاً، وهذا الخيار قد يبدو مُستبعداً.
في الختام إزدادت بؤر الصراع في العالم، حيث أصبحت أربع بؤر هي: الأوكرانية، التايوانية، الشرق الأوسط (غزة)، إضافة الى البلطيق. والسؤال المطروح الآن إلى أين يتجه العالم في صراعاته وتوتراته الجيوسياسية, في ظل شبه إنهيار للإقتصاد العالمي؟.
خبير ومحلل استراتيجي
mhaddadin@jobkins.com