يشكل موقع الأردن الجيوسياسي قيمة ذي أهمية الإقليم، دفعته لأن يلعب دورا استراتيجيا هاما عبر 100 عام من تأسيس الدولة ثم استقلالها.
فهل هو قدر هذه الدولة أم لعنة التقسيم الاستعماري لان تكون جغرافيته داخل وسط مشتبك ومختلف عن سياسات وايدولوجيات جواره؟ فتاريخ هذه الدولة ومنذ الصراع العربي الاسرائيلي استند الى جغرافيته في لعب أدوار اقليمية ودولية مهمة ومؤثرة رغم امكاناته المتواضعة المعروفة، لكن هذه الأهمية هي ذاتها التي تجبره ايضا على الانزلاق في ازماتٍ متوترةِ يشهدها الاقليم ودول الجوار عاكسة تداعيات مباشرة وغير مباشرة على أمْنه واستقراره الداخلي وعلاقاته الاقليمية والدولية بدءأً من احتلال العراق مروراَ بالازمة السورية ووصولاً لحرب غزة، وانتهاء بالردِ الايراني على اسرائيل ليلة السبت/ الأحد الماضي وعبر الاجواء الاردنية على خلفية قصف القنصلية الايرانية في دمشق مؤخراً، في خطوة استفزازية للكيان الصهيوني لتوسيع دائرة حربه على غزة اقليميا.
المعضلة الجيوسياسية الأردنية دفعت نحو لفت انتباه الداخل الاردني بضرورة قراءة التموقع الأردني والدفاع عن اذا كانت عبئاً، أو توظيفها في تغيير موازين السياسة مع الجوار والقوى الاقليمية والدولية لصالح الاردن مستقبلاً؟
مكسب أم عبء
لا شك أن مجاورة الاردن لدول متعددة السياسات والايولوجيات تُثقلها خلافات شائكة ومتشابكة، تزيد من حالة التأهب الدائم للاردن في التعامل مع ما فرضته قسوة الجيوساسية الأردنية، وخصوصاً مع وجود الكيان الصهيوني المحتل المجاور على طول حدوده الغربية، والذي ما زال ينظر إلى الجغرافيا المحيطة من زاوية الهيمنة والتوسع والضم والاحتلال ويلوح بأجنداته الاستيطانية بالعلن مع كل ازمة اقليمية ودولية مستخدماً اذرع الدعم الاستعمارية القديمة والحديثة.
بل أن التعقيد الجيوسياسي هذا، رفع فاتورة أمن الأردن على حدوده الشمالية منذ الازمة السورية عام 2011 لمنع عمليات ممنهجة في تهريب المخدرات والاسلحة من والى دول الجوار وصلت حد الاشتباكات العنيفة مع حرس الحدود الاردني، بالاضافة الى ما ترتب على الاردن من تبعيات اقتصادية واجتماعية في استضافة اللاجئين السوريين بحكم الحدود والقرب الجغرافي.
أما على حدوده الشرقية وبالرغم من علاقاته المتوازنه مع العراق،الا ان عمليات اغلاق حدودية برية تحدث بين الحين والاخر تمثلت في الاشهر القليلة الماضية لحشود شيعية تهتف لعبور الاراضي الاردنية لنصرة غزة الواقعة تحت آلة الابادة الاسرائيلية، واستمرارها سيحولها الى ازمة ذات بعد امني واقتصادي تعيق مصلحة البلدين.
اذن ثمة ثقل وعبء على الاردن وفقا لموقعه الجيوساسي قد تولد استحقاقات سياسية وأمنية كبيرة لكن ما هو المهم هو القدرة على استمثار هذا الموقع وتجييره لحساب المصلحة الوطنية الأردنية العليا.
استحضرتني مقولة نابليون وانا اكتب هذه السطور، يقول: " ان الزعيم لا يستطيع ان يسلك سياسة خارجية غير التي تمليها عليه جغرافيا بلاده"
لذلك و ببساطة، أي عقل دولة واعٍ ومدرك لمصادر قوته سواء كانت طبيعية أواقتصادية أوتكنولوجية لا يتردد في توظيفها في سياسته الخارجية، بل ويحجز موقعه في خارطة المصالح الاقليمية والدولية.
اعتقد ان صانع السياسة الاردني ومن منظور حتمية التعامل مع الظروف الراهنة، بحاجة الى قراءة جذرية مختلفة لفقه المكان حاضرا ومستقبلا امام شهية السياسات والاطراف المتناحرة من كل صوب، وعليه أن يناور على الجغرافيا باعتبارها "ميزة" يقدمها على كل اشكال التبعيات السياسية والاقتصادية التي جلبت اليه مساعدات مالية وكبلته من جهة اخرى.
لا وجود للخجل او النأي بالنفس في التحولات القادمة للمنطقة، نعم إن عبء الجغرافية الاردنية التي القت بظلالها على السياسات الاردنية منذ مئة عام ودفعت صانع القرار لعقد سلسلة من التحالفات والتقاطعات ليتماشى مع معطيات وتوازنات تحكمها متغيرات دولية، لتوفير مخرجاً له كلما عصفت امامه ازمة اقليمية أو دولية، لا بل وأبقته في حدود دبلوماسيته الناعمة المعهودة أو الناي بنفسه في احيان كثيرة، جاءت هذه التحديات الراهنة مجتمعة، تقول لنا ان جغرافية الاردن هي بوصلة السياسة الاردنية القادمة اذا أحسن استخدامها واستثمارها بما يخدم الاردن وشعبه، هذه الجغرافيا التي لا يمكننا تجاهلها طال الزمن او قصر مع ارتفاع منسوب التنبؤ بتحولات قادمة لشكل القوى الصاعدة في الاقليم والعالم برمته.