عندما بدأت إسرائيل حربها الهمجية على قطاع غزة والتي انطوت على تجاوزات مُشينة لكل القوانين الدولية والإنسانية والأخلاقية كانت تظن أنها تستطيع أن تحقق أهدافها في بضعة أسابيع ليس أكثر، ولكنها في الواقع واجهت ما لم يكن في الحسبان فالشعب الفلسطيني الذي تعرّض لمحن التهجير، والترويع، والمجاعة، لم يستسلم، ولم يرفع الراية البيضاء، ولم يخذل المقاومة، والمقاومة بدورها صمدت صموداً بطولياً على تواضع أسلحتها وإمكاناتها، والعالم بدأ يستكشف أن إسرائيل ليست دولة صغيرة مهدّدة كما تدعي دائماً بل دولة مارقة لا تتورع عن مقارفة أية جرائم حرب تُمكّنها من تحقيق أهدافها.
والآن .... وبعد مرور ما يقارب الستة أشهر على بداية الحرب تبدو إسرائيل في طريقها إلى فشل مُحقّق يتّضح من خلال المؤشرات الآتية:
أولاً: لم تُحقّق إسرائيل حتى الآن أياً من أهدافها المُعلنة فهي لم تستطع القضاء على حماس التي ما زالت تقاوم ببسالة، وتعود إلى الأرض التي توهّمت إسرائيل أنها سيطرت عليها، وهي لم تستطع تحرير "رهائنها"، وهي لم تتمكن من استبعاد الخطر الذي يمكن أن يأتي من القطاع مستقبلاً.
ثانياً: لم تستطع إسرائيل توظيف الاستراتيجيات التي كانت توظفها في حروبها السابقة وهي استراتيجية "الحرب الخاطفة" (بحيث لا تستمر الحرب أكثر من أسابيع قليلة)، واستراتيجية "نقل المعركة إلى أراضي الخصم"، حيث مضى على الحرب حتى الآن أكثر من ستة أشهر كما تدور المعارك حالياً فيما يُسمى "أراضيها" (تل أبيب وعسقلان وأسدود وغلاف غزة).
ثالثاً: عانت إسرائيل من خسائر عسكرية فادحة بالنسبة لحروبها السابقة (أكثر من 600 قتيل وأكثر من 3000 جريح حسب بياناتها الرسمية)، كما عانت من خسائر اقتصادية كبيرة (بسبب تجنيدها للاحتياطي تحديداً) الأمر الذي أدى إلى تخفيض تصنيفها الائتماني ولأول مرة في تاريخها.
رابعاً: خسرت إسرائيل صورتها أمام الرأي العام العالمي، فالمظاهرات الصاخبة تعُم مُعظم المدن الكبرى في العالم مطالبةً بوقف الحرب، ومنددةً بجرائم الحرب الإسرائيلية، ورافعةً لشعارات تحرير فلسطين (Free Palestine)، والواقع أن توجّهات الرأي العام الحالية سوف تؤثر مستقبلاً على حكوماتها وبالذات في دول الغرب (أمريكا، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، كندا...) بحيث يُترجم ذلك على شكل سياسات أكثر إنصافاً للشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولته على ترابه الوطني وفق الشرعية الدولية التي تنص على إقامة دولة في فلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية (ما يُعرف بحل الدولتين).
خامساً: خسرت إسرائيل مواجهتها مع الأمم المتحدة بوكالاتها وأذرعها المختلفة إذْ لم تبقِ أية وكالة أممية لم تُدنْ إسرائيل وبأقوى العبارات كالأونروا (وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين)، و"برنامج الغذاء العالمي"، و"منظمة الصحة العالمية"، و"مجلس حقوق الإنسان" الذي صوّت بالأمس لصالح منع تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، والواقع أن فشل إسرائيل الإستراتيجي تجلى في هذا الجانب بجلبها للمحاكمة أمام محكمة العدل الدولية (أعلى محكمة تفصل بين الدول على مستوى العالم) بتهمة "الإبادة الجماعية"، كما تجلّى في إخفاقها في تدمير الأونروا واستبدالها بوكالة أخرى رغبةً منها في شطب حقوق اللاجئين الفلسطينيين. صحيح أنها نجحت في وقف التمويل عن هذه الوكالة من قبل بعض الدول (وبالذات الغربية) ولكن بعضها ما لبث أن عاد إلى التمويل (أستراليا، كندا، اليابان، إسبانيا ....)، كما أن العالم أدرك أنه ليس هناك بديل لهذه الوكالة التي تقدم خدماتها للاجئين الفلسطينيين في فلسطين، والأردن، وسوريا، ولبنان، كما أدرك أنه لا يجوز إلغاء دور هذه المنظمة إلّا بقرار من الجهة التي أصدرته وهي الجمعية العامة للأمم المتحدة.
سادساً: بدأت إسرائيل في فقدان الدعم المطلق واللامحدود من قبل داعمها الرئيسي وشريان الحياة بالنسبة لها وهي الولايات المتحدة، فقد ضاقت أمريكا أخيراً بتجاوزات إسرائيل وانتهاكاتها (آخرها تعريض الشعب الفلسطيني في قطاع غزة للمجاعة وقتلها للمدنيين بصورة وحشية) وقررت أن تضغط عليها لوقف هذه الحرب المسعورة التي لن تُمكّنها من تحقيق أهدافها، وقد كان اتصال الرئيس الأمريكي "بايدن" الأخير بنتنياهو المتعنت الحالِم بتحقيق "نصر مطلق" على المقاومة الفلسطينية واضحاً وصارماً تبدت آثاره في إصدار عقوبات اسرائيلية ضد مرتكبي جريمة قتل أعضاء فريق "المطبخ العالمي"، وفتح معبر "إيرز" وميناء أسدود لقوافل المساعدات الإنسانية، كما تبدت في إرسال "بايدن" لرئيس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية إلى القاهرة لإنجاز اتفاق وقف لإطلاق النار وعقد صفقة لإطلاق سراح "الرهائن".
هل هي بداية الانكسار الإسرائيلي؟ بالتأكيد وإن لم يظهر ذلك على صورة هزيمة مدوّية لا يريد الغرب لإسرائيل أن تتجرعها أمام العالم!