هذا موضوع ظل يدور في رأسي لأعوام وفكرت فيه مليا وخلصت إلى نتيجة قد لا يقبلها البعض وهي أن اصطلاح "الأمة العربية" - الذي بدأ استخدامه أواخر العهد العثماني وكان واحدا من محركات الثورة العربية الكبرى في المشرق العربي التي قامت ضد الدولة العثمانية عام ١٩١٦ واستلهمته فيما بعد الأحزاب القومية في المشرق العربي ومصر ومن بينها حزب البعث - غير واقعي وفرضه الآخر علينا الذي قدم العرق التركي على العربي في أواخر العهد العثماني قبل أن يشجع الاستعماران البريطاني والفرنسي لدول المشرق العربي أنصار هذا الاصطلاح ويقنع غيرهم بحقيقيته..
أرى كقارىء للتاريخ أن العرب لم يشكلوا في يوم من الأيام أمة فإذا استعرضنا تاريخ العرب قبل الإسلام فقد كانوا قبائل متناحرة لا يجمعها إلا اللسان والتحالفات المؤقتة بين قبيلة وأخرى لتحقيق مصالح معاشية تتمحور حول تأمين الماء والكلأ وحماية طرق التجارة، وتاريخ الجاهلية حافل بالمعارك بينهم ولا أظن أن أحدا منا لم يقرأ أو يسمع على الأقل بحرب الفجار والبسوس وداحس والغبراء..
جاء الإسلام ليصهر هذه القبائل صاحبة التاريخ الطويل من النزاعات والثارات والحروب في بوتقة جديدة أو دين جديد يساوي بين أتباعه على اختلاف أعراقهم وألوانهم ومكانتهم الاجتماعية والاقتصادية فنجح في تشكيل أمة جديدة سميت بالأمة الإسلامية.
بعد الفتوحات دخلت قبائل أعجمية بالإسلام استعرب بعضها لأن العربية كانت لغة الإسلام والمسلمين واللغة الرسمية للنظام السياسي إبان حكم الخلفاء الراشدين والدولتين الأموية والعباسية.
طوال تلك الفترة لم يظهر في الأدبيات السياسية أو الثقافية أو التاريخية اصطلاح "الأمة العربية" حيث كان الناس مسلمين وغير مسلمين عربا وغير عرب مواطنين في الدولة الإسلامية وإن ظهرت في بعض الأحيان نعرات بين عربي وغير عربي وبين العرب أنفسهم كقيس ويمن.
وفي عهد الدول الفاطمية والأيوبية والمملوكية في مصر والشام لم يظهر أي أثر لذلك الاصطلاح ولم يشكل العرب أمة بل ظلت الأمة إسلامية الوجه والمضمون وظلت كذلك حتى أواخر الدولة العثمانية وسيطرة الأتراك عليها لا سيما حزب تركيا الفتاة وعند ذاك بسبب تهميش العرب كعرق وعدم تقدير دورهم التاريخيّ في حمل رسالة الإسلام للعالم وتأسيس الدولة الإسلامية بدأت ارهاصات القومية العربية بالظهور.
هذا في دول المشرق وأما في المغرب فقد ظل الكثير من سكان دول المغرب التي دخلت في الإسلام وقبلته معتزين بأعراقهم لا سيما الأمازيغ ولم يخلو تاريخ تلك الدول من نزاع خفي بين العرب الفاتحين وجانب من سكان البلاد الأصليين وإن هيمن العرب على أوجه السياسة والفقه والقضاء.
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بانهيار الدولة العثمانية في المشرق العربي واحتلال بريطانيا وفرنسا لتلك الدول وانطلاقا من أن فرنسا ذاتها كانت تحتل معظم دول المغرب العربي بدأ العرب يشعرون أن هناك ما يوحدهم فجميعهم تحت الاستعمار ولسانهم واحد ودين الغالبية العظمى منهم الإسلام ويجمعهم تاريخه فتعاظمت هذه النزعة إلا أن عبرت عن نفسها على شكل حركات سياسية وأحزاب استحوذ بعضها على السلطة كما في العراق وسوريا.
بعد استقلال الدول العربية عن الاستعمار ظهرت الدول القُطرية واتخذت كل دولة مسارها السياسي والثقافي الخاص بها انطلاقا من حرص أنظمتها السياسية على البقاء ولما كانت معظم هذه الدول شراذم فقد كانت ضعيفة بحاجة للحماية من دول كبرى فتحالف البعض مع بريطانيا قبل أن ترث الولايات المتحدة هذا التحالف وآخرون مع فرنسا وغيرهم مع روسيا وشيئا فشيئا ابتعدت خطوط التلاقي بين بعض هذه الدول والتقت بين دول أخرى فتشكل مجلس التعاون الخليجي لاعتبارات سياسية وتاريخية وثقافية وأنشىء الاتحاد المغاربي للاعتبارات ذاتها قبل أن تنسفه الخلافات بين المغرب والحزائر وأخيرا مجلس التعاون العربي الذي جمع الأردن مع العراق واليمن ومصر في تحالف غريب سرعان ما أنهاه احتلال العراق للكويت.
أما جامعة الدول العربية التي أسست قبل هذه الاتحادات الإقليمية بعشرات السنين فقد كرست فرقة العرب أكثر مما جمعتهم فقد نشأت فكرتها على نواة دولة اتحادية وئدت في مهدها بسبب الخلاف على نظامها السياسي وشخص رئيسها فاستعيض عنها برابطة تجمع الدول العربية وتقر باستقلالها عن بعضها البعض وبتنوع أنظمتها السياسية ويشهد تاريخها أن تأثيرها في جمع "الأمة" محدود محدود محدود.
الخلاصة بالنسبة لي الآن أن وجود ٢١ دولة تحت مظلة هذه الجامعة لغتها الرسمية العربية لا يعني بأي حال أننا أمة واحدة بل أمم وشعوب لديها قواسم مشتركة ولكنها لديها في الوقت ذاته عوامل تنافر وتباعد كثيرة وإذا قال قائل إننا بذلك حالة فريدة أقول له تأمل يا رعاك الله في حال أمريكا اللاتينية فمن أصل ٣٣ دولة في القارة هناك ٢١ تتحدث الإسبانية وكلها تشترك في أنها كانت موطنا لسكان تجمعهم الكثير من العادات والتقاليد والثقافات قبل أن يحتلهم الإسبان ويدخلوهم عنوة بالكاثوليكية فباتوا جميعا مسيحيي الديانة إسبانيي اللسان فهل يشكلون أمة واحدة؟ وهل تسمع من بينهم من يطالب بالوحدة ويأسف على هذا التشرذم؟
لذلك كله أرى أن الواقع يقتضي منا لا سيما المثقفون أن نلتفت إلى ما يصلح حالنا في البلد الواحد المستقل وأن نختار تحالفاتنا السياسية بعيدا عن ما تسمى بالاعتبارات القومية والتاريخية والدينية فالسياسة لا دين ولا عرق لها إن هي إلا المصلحة، والمصلحة غاية الحكم.