فرق التنمية بين مختلف دول العالم يعود إلى عدة عوامل لعل من أبرزها مدى إدراك المسؤولين للدور الحقيقي للحكومات. الفهم التقليدي للدور الحكومي يقوم على أن الحكومة سلطة على الناس وأنها إدارة خدمية تتولى كل شيء ومطلوب منها توظيف الناس مما ينتج عن ذلك الفهم تضخم في الجهاز الحكومي وتعدد مؤسساته وزيادة في عدد العاملين فيه بشكل يفوق احتياجاته أضعاف مضاعفة وزيادة في نفقاته وخصوصاً في الشق الجاري منها وضعف في أطر حوكمته وبالتالي تدني مستوى الخدمات التي يقدمها.
أما الفهم الدقيق لدور الحكومات أنها سلطة لخدمة الناس وأنها إدارة تنموية توفر البيئة المناسبة لعمل القطاع الخاص باعتباره المحرك الرئيسي للنمو الإقتصادي والقادر على توليد فرص العمل لتشغيل الناس وأن الدور التنظيمي والإشرافي يغلب على الدور الخدمي للجهاز الحكومي الذي يقتصر على الخدمات السيادية والأساسية والاسترتيجية وهذا يؤدي إلى صغر حجم الجهاز الحكومي وضبط نفقاته وزيادة حوكمته وبالتالي الكفاءة في إدارة موارده والفعالية في تحقيق أهدافه. وهذا الفهم يقود إلى صغر حجم الجهاز الحكومي مقابل اتساع في القطاع الخاص.
تنعكس التركيبة الفكرية والسلوكية للمسؤول على نهج عمله وطريقة إدارته للعمل العام. وهذا الأمر يسري على جميع المستويات من رئيس للوزراء إلى وزير إلى أمين عام أو مدير عام. هناك من لديه فهما تقليديا لدور الحكومات وهناك من لديه فهما دقيقا لدور الحكومات وهناك ما بين هذا وذاك. والأداء العام بالنتيجة محكوم بالنهج الإداري لدى المسؤول ونمط وطريقة تفكيره.
من الملاحظ أن الفهم التقليدي قد ساد وما زال يسود بعض العقليات التي يُدار بها القطاع العام، وهناك عقليات لدّيها فهما دقيقا لدور الحكومات وهناك عقليات ما زالت في طريق التحول في نمط التفكير وهناك عقليات تتأرجح بين الفهم التقليدي والفهم الدقيق.
التحول الجذري في العقلية ونمط التفكير كفيل بحل الكثير من المشاكل والتحديات التي تواجه العمل العام. الفهم الدقيق لدور الحكومات يتمثل في الإدراك التام بأن القطاع الخاص هو المحرك الأساسي للإقتصاد ومن مصلحة الحكومة توفير البيئة الملائمة الممكنة للقطاع الخاص لكي يعمل وينتج ويخلق فرصا للعمل وعندما تتعزز تنافسيته يزداد نشاطه وتتوسع أعماله تلقائيا مما يتضاعف إجمالي ما يورده للخزينة العامة من إيرادات على شكل ضرائب ورسوم.
يتمثل المؤشر الأساس والأهم لنجاح الحكومة في أداء القطاع الخاص من خلال تحقيق معدلات أفضل من النمو الاقتصادي وتوفير المزيد من فرص العمل المنتجة. فإذا أردنا الحكم على الأداء الحكومي، فإن أبرز مؤشر على فعاليته هو أداء القطاع الخاص.
من خلال دراسة وتحليل الطريقة التي تُدار بها المؤسسات، أرى أن مواطن الخلل في معظمها ومجملها تتمحور حول الإدارة ونهج العمل وتتركز بشكل كبير في الممارسة والتطبيق. وهذا يَدلُّ على أن المشكلة هي في البنية الفكرية للأشخاص أكثر من أي شيء أخر.
النظرة الشمولية في السياسات والقرارات من أبرز متطلبات النجاح، ذلك حتى لا نتقدم في محور أو مجال خطوة ونتراجع في محاور أو مجالات أخرى العديد من الخطوات. وحتى لا نضطر إلى إعادة النظر في هذه السياسات وتغييرها أو التراجع عنها بشكل متكرر وسريع، فالاستقرار والثبات النسبي في السياسات ميزة بل عامل حاسم للنجاح .
هناك مهام تصلح أن تقوم بها وزارات أو دوائر أو مؤسسات، وبالمقابل هناك توجهات وسياسات متعددة الأوجه والأبعاد والآثار، فتلك يُفترض أن تُبنى من الألف إلى الياء على مستوى الحكومة ككل بمعنى أن تُعد من قبل عدة جهات وأن تخضع لتحليل مهني حقيقي ونقاش عميق وبنّاء من قبل الفرق الفنية المتخصصة شموليا واللجان المنبثقة عن مجلس الوزارء وبعدها مجلس الوزراء، وليس إعدادها على مستوى وزارة أو مؤسسة وتأتي منها إلى مجلس الوزراء حينها يقتصر دور مجلس الوزراء ولجانه على مناقشة سريعة لسياسة عامة طُورت من قبل وزارة أو مؤسسة واحدة وبالتالي يصعب استحضار بقية الجوانب والأبعاد وكافة الآثار.
لابد للسياسات إلا أن تكون طويلة المدى عابرة للحكومات والأهم من ذلك أن تستند إلى مؤشرات قابلة للقياس والتقييم. ولابد من التوقف عن ظاهرة معالجة التحديات من خلال نقل المهام من مكان إلى مكان أو من رئاسة الوزراء إلى وزارة أو من وزارة إلى أخرى وهكذا. الأصل أن تواجه التحديات وتُحل في مكانها لا باستسهال عملية نقلها، ذلك لأن نقلها يضعف الثقة بالمؤسسات.
دور الحكومات لا يقتصر على تسيير الأعمال بل معالجة التشوهات وصناعة الفرق في الأداء وتحقيق إنجازات وكل ذلك يُفترض أن يستند إلى مؤشرات ومعززات محددة نلمسها على أرض الواقع وينتفع منها الناس. ولابد من التخلص من حالات الضعف أو الإنفعال لدى القيادات الحكومية الذي يؤدي إلى تراجع هيبة المراكز الوظيفية. ولابد من معالجة الإنحدار في ثقافة العمل ولا يتحقق ذلك مهما طرحنا من برامج ومبادرات رنانة ما لم يشكل المسؤول قدوة حسنة لتابعيه في القول والفعل والسلوك.
المطلوب الانتقال من إدارة خدمية تتولى كل شيء إلى إدارة تنموية تضع الأطر التشريعية والرقابية وترسم السياسات العامة وتتابع مستوى تطبيقها وتترك للقطاع الخاص كامل الحرية المسؤولة ليعمل وفق مفاهيم اقتصاد السوق والاستفادة من عوامل الإنتاجية والتنافسية.
هذه التوجه يشكل نمط إداري مختلف وجديد يمثل نقطة تحول أساسية في دور الإدارة العامة من دور خدمي خالص إلى دور تنموي داعم لأنشطة الأعمال، ومن دور الرعاية إلى دور الحماية.
من المتعارف عليه أن أي خطة تحول إداري عادةً ما تجمع بين مسارين متزامنين: الأول لمعالجة الاختلالات الراهنة بشكل تدرّجي ومتوازن ومدروس، والثاني لتأصيل ومأسسة عمليات التحول لتحقيق الأهداف التنموية واستدامتها. لا يتحقق النجاح إلا بتبني القيادات العليا والتنفيذية في الجهات الحكومية لهذا التحول في الدور الحكومي والالتزام به وتوفير المساندة لتطبيقه في مختلف المستويات.
يتطلب النجاح التركيز على الصورة الكلية ومستوى الأداء العام للحكومة وعدم إدارة الجهات الحكومية كجزر معزولة. كما أن جودة التفكير أساس التخطيط وفي جودة التخطيط نجاح التطبيق. ولا يقتصر التحدي على صياغة الأفكار الإبداعية ووضع الخطط المحكمة، إنما يكمن التحدي في ضمان التنفيذ الفعلي على أرض الواقع.
وفي سياق آخر في ذات الإطار ولمعالجة حالات حدثت خلال السنوات الماضية ولمنع تكرارها، على الحكومة الحرص التام على أن لا تتعطل حركة الاقتصاد ولو لساعات لما لذلك من تكلفة باهضة. ولهذا عليها أن تتخذ ما يلزم من إجراءات وقائية تحول دون وقوع أي شيء يعطل الاقتصاد أو يؤثر على ادامة سلاسل التوريد.
على المسؤولين في مختلف مواقع المسؤولية التركيز على تحليل التحديات الاقتصادية التي تتعاظم يوما بعد يوم على بوابات الأردن على العالم اقتصاديا وكيفية التعامل معها وايجاد السبل الكفيلة بديمومة حركة التجارة الخارجية بأقل مستوى من الأسعار والوثوقية والاستدامة مع تنويع الخيارات والبحث عن حلول مبتكرة في هذا المجال.
وعلى المستوى الداخلي، اقترح أن يتولى الأمن العام إدارة وتشغيل المنافذ الحدودية والموانىء على اختلاف انواعها من بحرية وجوية وبرية من قبل أصحاب اختصاص لضمان استدامة العمل وحتى لا تكون عرضة للتوقف نتيجة لأي اضرابات تتعلق مطالبات وظيفية أو غيرها قد تحدث في أي لحظة. ليس هذا فحسب، بل اقترح أيضا إعارة وتكليف عدد من منتسبي القوات المسلحة والأمن العام للعمل في مختلف الوزارات والمؤسسات والداوئر الحكومية لاستدامة العمل والأداء في أي حالات طوارىء أو إضرابات أو أي شيء من هذا القبيل. واقترح أيضا على من يتعين في الجهاز الحكومي من منتسبي النقابات تجميد عضويته في النقابة التي ينتسب إليها لحين تقاعده او استقالته من العمل الحكومي.
وفي مجال الخدمات السيادية، اقترح أن تتبع دائرة الجمارك العامة للأمن العام. ولا بأس في أن تتبع دائرة الأحوال المدنية والجوازات والمتابعة والتفتيش مثلها مثل الإقامة والحدود للأمن العام وأن تكون كوادرها بالكامل أصحاب إختصاص من الأمن العام.
على المسؤولين الحرص على تكريس أقصى طاقاتهم وقدراتهم للمسؤوليات التي نالوا شرف توليها والترفع تماما عن أية مساعي فيها استغلال نفوذ بهدف تنفيع أشخاص، فعظمة المسؤولية تتطلب الارتقاء بالاهتمام والتصرف إلى مستواها إذ تسقط أية اهتمامات أو مساعي جانبية أو غير موضوعية وإن لم تسقط هذه الاهتمامات والمساعي سقط أصحابها تماما من عيون الناس.
على المسؤول لأنه مسؤول أمام الله أولا وأمام جلالة الملك ثانيا وأمام الشعب الأردني ثالثا - ويا له من قسم عظيم تهتز له الجبال وتخر له الجباه - أن يحرص دائما على وضع الأمور في نصابها الصحيح وأن يعطي كل شيء حقه دون مبالغة أو تهويل وأن ينشغل بما ينفع الناس. ولابد من معالجة مواطن الضعف الماثلة وما حدث ويحدث من انفلات في الإنفاق. هذا بالإضافة إلى الإبتعاد عن الشكليات التي ظاهرها جميل لكنها في حقيقة الأمر عديمة الجدوى ويرافقها مزيد من الانفاق والأهم من ذلك فيها عودة إلى الوراء مع ضعف في الأداء. والضعف مهما تذاكى أو تدارى أو توارى أهله مكشوف ومفضوح.