من المعروف أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو حظي بمكانة مُميّزة في إسرائيل حتى بالمقارنة مع رؤساء الوزراء الذين سبقوه فقد حكم حتى الآن لما يزيد عن خمسة عشرة سنة (أكثر من أي رئيس وزراء سابق حتى بالمقارنة مع "بن غوريون" مؤسس الدولة)، كما دأب المجتمع الإسرائيلي على تلقيبه "بالساحر" ( نظرا لإتقانه اللغة الإنجليزية ومهارته في التواصل مع الجمهور)، و"بسيد الأمن"، بل و"بملك إسرائيل" وقد كان شيئاً مُلفتاً أن يتم انتخابه مع حزبه "الليكود" في الانتخابات الأخيرة حتى مع التهم الموجهة إليه في المحاكم "بالاحتيال" و"الرشوة" و"خيانة الأمانة"، وهو الآن يملك أغلبية مريحة في الكنيست (ما يزيد عن 64 مقعداً)!
ولكن من الواضح أن نتنياهو لم يفقد بريقه فقط بل تلقى "ضربة العمر" بعد السابع من أكتوبر، وتشير الاستطلاعات داخل إسرائيل إلى أنّ حزبه يتراجع بوضوح أمام الأحزاب الأخرى وبالذات حزب "الوحدة الوطنية" الذي يقوده "بيني غانتس" رئيس الأركان الإسرائيلي السابق، بل إنّ الأمر لم يقتصر على الداخل الإسرائيلي حيث أنّ الرئيس الأمريكي "بايدن" -الذي دعم إسرائيل بصورة غير مسبوقة في حربها المُدمّرة ضدّ قطاع غزة والمقاومة الفلسطينية- صرّح بأن سياسة نتنياهو "تضُر إسرائيل أكثر مما تنفعها"، كما أنّ "تشاك شومر" زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ دعا إلى انتخابات مبكرة في إسرائيل لفرز قيادة جديدة مشيراً إلى أن نتنياهو "ضلّ طريقه"، وإذا تذكرنا بأن كل سياسي ذي شأن يُحب أن يترك بصمة في التاريخ فإن من المنطقي أن نسأل كيف سيذكر التاريخ نتنياهو؟ وما هو الإرث (Legacy) الذي سيتركه في عالم السياسة؟
إنّ أحداً لا يملك الإجابة القاطعة على هذا السؤال ولكن المؤكد أن مكانة نتنياهو في التاريخ سوف تتحدّد بعدة عوامل لا أحد يستطيع أن ينكرها:
أولاً: إن معركة "طُوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر حدثت في عهده بما كل ما عنته من تقصير فادح، ومن خسائر بشرية (الأكبر منذ حدوث "المحرقة" على حد تعبير المسؤولين الإسرائيليين) ومن ضرب لنظرية الردع الإسرائيلية حيث تبيّن بوضوح أن إسرائيل ذات الجيش القوي (الثامن عشر في العالم حسب تصنيف فاير باور الدولية Global Fire Power) لم تستطع ليس فقط أن تحمي مستوطناتها في غلاف غزة بل لم تستطع حتى بعد مرور خمسة أشهر القضاء على المقاومة الفلسطينية مع أنها رمت ما يزيد عما يوازي (5) قنابل نووية (من نوع ما ألقي على هيروشيما وناجازاكي في الحرب العالمية الثانية) على القطاع وقتلت ما يزيد عن (32,000) وجرحت ما يزيد عن (72,000) فلسطيني. إنّ من المبتوت فيه أنّ هذا سوف يُسجّل في تاريخ نتنياهو السياسي كمسؤول أول في الدولة، والكل ينتظر نهاية الحرب لكي تبدأ لجان التحقيق في دراسة أسباب التقصير، ومجالاته، والمسؤولين عنه بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
ثانياً: أنّ صورة إسرائيل قد تضررت بشدة في عهده وإلى درجة أن أقرب حلفائه انتقد طريقته في إدارة المعركة حيث استخدم أساليب التهجير (هجّرَ أكثر من نصف سكان القطاع إلى رفح التي يهدد باجتياحها)، والترويع (ألقى أكثر من 35,000 طن من القنابل على القطاع الذي لا يزيد مساحته عن 365 كم2)، والتجويع (أشار "بوريل" مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي بوضوح إلى أن إسرائيل تستخدم أسلوب التجويع ضد سكان القطاع)، ولعلّ المظاهرات التي تخرج في كل أسبوع في معظم عواصم العالم ضّد الطريقة الهمجية التي يمارسها نتنياهو في الحرب هي خير شاهد على أن إسرائيل تخسر صورتها أمام الرأي العام العالمي وإلى حد أنه تم جرُّها إلى محكمة العدل الدولية (أرفع محكمة عالمية تحكم بين الدول) بتهمة الإبادة الجماعية، كما رأى "شومر" بأن إسرائيل قد تصبح دولة "منبوذة".
ثالثاً: أنّ نتنياهو حاول أن يغير في النظام السياسي الليبرالي على النمط الغربي السائد في إسرائيل بحيث تتركز السلطة في يد السلطة التشريعية المنتخبة التي تفرز الحكومة على حساب صلاحيات "محكمة العدل العليا"، أيّ أنه حاول العبث في فكرة التوازن بين السلطات (Cheques and balances) وهو جوهر الديمقراطية الليبرالية الأمر الذي قاد إلى انقسام حاد في المجتمع الإسرائيلي بين علمانيين يريدون بقاء النظام وديمومته وبين يمينيين يريدون دولة "دينية" تحكمها الشريعة اليهودية علماً أن إسرائيل لا تتوفر "على دستور" بل على جملة قوانين تُسمّى "قوانين أساس".
رابعاً: أن نتنياهو مُتّهم من قبل القضاء الإسرائيلي بثلاث تهم مهمة هي: الرشوة، والاحتيال، وخيانة الأمانة، ورغم أنه لم يُدن بعد بصورة قطعية لأسباب "لوجستية" كثيرة، وبسبب الحرب التي تلت السابع من أكتوبر، إلّا أنه يظل الوحيد (باستثناء رئيس الوزراء السابق يهود أولمرت الذي حوكم وأدين ببعض التهم) من رؤساء الوزارات الإسرائيلية الذين وُجهت إليهم مثل هذه التُهم الخطيرة.
إنّ التاريخ سيحكم على نتنياهو كما سيحكم على غيره ولكن مما لا شك فيه أن مكانة نتنياهو في التاريخ لن تُكتب بمعزل عن فشله في السابع من أكتوبر، وعن "الجرائم الموثقة" التي اقترفها بحق الفلسطينيين، وعن محاولته زعزعة النظام السياسي في إسرائيل، وعن التهم الخطيرة التي وُجِهت إليه.