بتاريخ 21 / آذار / 1968 لم يأت نصر " الكرامة " من فراغ، وهو الذي قاد قراره للمرة الثانية في شهر آذار بعد تعريب قيادة الجيش العربي – الأردني بتاريخ 1/ آذار / 1953 مليكنا الراحل العظيم الحسين بن طلال طيب الله ثراه، وكان لقواتنا المسلحة الأردنية الباسلة – الجيش العربي الصدارة في تحقيق النصر بالتعاون مع أشقائنا الفلسطينيين من وسط الخندق الأردني – الفلسطيني الواحد.
ولقد كان قرار الحسين كما قرار تعريب الجيش صائبين، وأسس القرار الأول للقرار الثاني وبشجاعة قل نظيرها، فلم يكن ممكنا الاستمرار بقبول غلوب باشا الانجليزي وأركانه في غرفة قيادة الجيش الذين استبدلهم القرار بقيادة أردنية مخلصة للوطن ولنظامه السياسي.
ولم يقبل الاردن الحياد في معركة المصير في الكرامة التي بدأت بعملية فدائية لقوات العاصفة الفلسطينية في (بيت فوريك) قرب نابلس بتاريخ 7/ 12 / 1967، وقاد ميدان معركة الكرامة الباشا مشهور حديثة الجازي (كتاب معركة الكرامة. الطبعة 2009. محمود الناطور. ص 6)، وفي بداية سبعينيات القرن الماضي سلمت راية الدفاع عن الاردن لوصفي التل،الذي استشهد حينها، ودخل اسمه بوابة الزعامة الشعبية الاردنية تجاه الخلود.
و الحدثان (التعريب والنصر في الكرامة) من أهم انجازات الحسين العظيم. وحرب عام 1948 الخاسرة غاب عنها القرار القومي الواسع، وحرب عام 1967 الخاسرة أيضا جاءت بقرار قومي محدود تم زج الاردن به في اللحظات الأخيرة وعارضه وصفي التل. وإسرائيل اخطبوط احتلالي، استيطاني، عدواني، نازي، يتمدد وينحسر حسب هدف وظرف الكيان الغاشم. والحراك الصهيوني منذ عهد ثيودور هرتزل 1897 سرطاني الطابع لا يتوقف عند حدود جغرافية، ويتصرف من وسط مؤسسة " الأيباك " على أنه فوق القانون الدولي ولا يرى مظالم الدول والشعوب وحقوقهم السيادية، وتساعده في توجهه الولايات المتحدة الأمريكية علنا. ولقد تغير مسار الصهيونية واليهودية فجأة عام 1950 بعد تعاطف جوزيف ستالين معهم بسبب محرقة " الهولوكست " التي اسدلت الستار على الحرب العالمية الثانية عام 1945، فتم توجيههم الى فلسطين بينما خطط لهم لتكون بوصلتهم اقليم القرم أو سخالين بعد انطلاقتهم من بارادبيجان الروسية ومن أوروبا وأفريقيا ومن بلاد العرب. والتفت الصهيونية على الأمم المتحدة عام 1947 وأصدرت القرار 181 الذي قضى بتقسيم فلسطين الى دولة عبرية (إسرائيل) وعربية (فلسطين) مع معرفتهم المسبقة برفض العرب بسبب قدسية كامل فلسطين والقدس والأقصى. والان نجد إسرائيل ترفض دولة فلسطين مع اندلاع حرب غزة، وهو أمر مستغرب.
ولقد قاد نصر "الكرامة" للنصر في تشرين عام 1973 وبمشاركة فاعلة لجيشنا العربي الأردني،وقدم الشهداء، وتم تحرير مساحات واسعة من مدينة القنيطرة في هضبة الجولان العربية السورية. وأضفى للدفع بإسرائيل لقبول سلام مع الاردن عام 1994 بعد سلامها مع مصر عام 1979، وهو الذي قاد لسلام مع الامارات والبحرين والمغرب عام 2020. لكن حرب غزة منذ السابع من أكتوبر 2023 كشفت عدم احترام إسرائيل للسلام مع العرب برفضها لوقف كامل لإطلاق النار مقابل الافراج عن جميع رهائنها لدى حماس. ولازالات تحتفظ بإسرى فلسطين في سجونها، وتعدادهم يفوق العشرة الاف، وتخطط لتهجير الفلسطينيين بعد استهداف المسالمين منهم على شكل حرب إبادة راح ضحيتها ما بين 30 الى 100 الف شهيد فلسطيني، ولم يشهد مثلها التاريخ المعاصر قساوة ووحشية منذ الحرب الثانية التي قادتها النازية الهتلرية 1939 / 1945.
وكرر جلالة الملك عبد الله الثاني حفظه الله نصر الكرامة بإصرار على تحرير اقليمي (الباقورة – شرق نهر الاردن، والغمر- في وادي عربه بمنطقة محافظة العقبة) عام 2019 من فكي معاهدة السلام الاردنية – الإسرائيلية لعام 1994. ويواصل جلالته اسناد القضية الفلسطينية في كافة المحافل الدولية منتصرا لحل الدولتين القادر على اظهار دولة فلسطينية كاملة السيادة وعاصمتها القدس الشرقية، مع تجميد المستوطنات اليهودية غير الشرعية، وضمان حق العودة، الى جانب تواجد إسرائيل. وفي حرب غزة الأخيرة الدموية بذل جلالة الملك جهودا مضنية لم يسبق لها مثيل وعلى كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية لوقف الحرب فورا، وقدم الاردن ولازال يقدم بتوجيهات جلالته مساعدات إنسانية ومنها طبية للأشقاء الفلسطينيين وبشكل مستمر ومن دون كلل أو ملل، وهي جهود ملكية أردنية مشكورة ومقدرة.
لقد قدم الجيش العربي الأردني في حرب الكرامة التي استمرت 15 ساعة ثلة من الشهداء الابرار، بلغ تعدادهم حسب الباحث محمود الناطور 74 عسكريا، وقدمت الفصائل الفلسطينية المشاركة 101 فدائي. وشكلت الحرب هذه حالة تلاحم أردنية – فلسطينية وطنية، وفزعة مشتركة لأن العدو واحد هو إسرائيل، وهدفه كان واحدا وهو توسيع مساحة الاحتلال، لكنه جوبه بتصدي عنيف دفاعا عن الاردن وفلسطين معا. وكان ولازال يعتبر الاردن عمقا استراتيجيا للقضية الفلسطينية العادلة، ومعني مباشرة بحلولها النهائية على مستوى اللاجئين، والحدود، والمياه، والوصاية الهاشمية على المقدسات في القدس، التي تعتبر خطا أحمرا عمقها التاريخي ضاربة جذورها وسط عهد شريف العرب وملكهم الحسين بن علي طيب الله ثراه عام 1924، مفجر ثورة العرب الهاشمية الكبرى عام 1916.
و ترتكز الدوافع المباشرة للكرامة من الجانب الإسرائيلي على تضخيم انفجار لغم بحافلة في جنوب النقب بتاريخ 18 / 3/ 1968، ويتوجيه اللوم وقتها على الاردن من قبل رئيس الحكومة ليفي أشكول لعدم التدخل لمنع العمل الفدائي من أراضيه. وأطلق على معركة الكرامة إسرائيليا عملية ( توفت، أي التصفية ). ولقد وصف الجازي القائد الميداني للمعركة إسرائيل في حربها مع الاردن والفدائيين الفلسطينيين، بأنها قررت اعادة ترتيب أوارقها من جديد، واعتبرت بأنها تحارب حركة زئبقية تصعب مواجهتها. وفي الكرامة حسب الجازي امتلك الجانب الاردني حرية التصرف في الميدان من دون تدخل، ولقد خسر الجيش 120 جنديا بين شهيد وجريح بينما كانت خسائر العدو الإسرائيلي أكبر بكثير، وهو الذي يخفيه العدو عادة.
وفي الختام، فإن النتيجة الممكن الوصول اليها هنا هي أن خيار الحرب أو السلام والنصر الكبير محتاج للوحدة، ونداء ثورة العرب الكبرى الهاشمية بقيادة شريف العرب وملكهم الحسين بن علي في الذهاب الى الوحدة لازال ماثلا. وان اوان أن نصل كعرب لمرحلة أن أي اعتداء على أي جزء من بلاد العرب كما غزة، اعتداء على كل العرب، وهو اعلان حرب شاملة. وشعار " ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير بالقوة " ان لم يترجم الى قوة السلام سيبقى حاضرا للعودة من جديد. والاحتلال زائل بقوة الارادة والضمير الحي. ولا شيء يمكن أن يعلوا على الكرامة والتنمية الشاملة والسيادة والاستقرار.