يمكن وصف الإنزالات الجوية التي قامت بها القوات المسلحة الأردنيّة بأنها تشكل تحدياً للحصار المفروض على أهلنا في غزّة ، و إن كان وفق تنسيق مسبق مع العدو ، و هذا أمر مفهوم لأن الدائر هناك حرب و ليست مناورة ،إذن كيف يكون ذلك تحدياً و قد تمّ بتنسيق ؟ يشكل ذلك تحدياً لانه استطاع إرغام العدو على قبول هذه الإنزالات حتى لا يظهر أمام العالم بأنه يسعى لخنق أهل غزّة و تجويعهم ، و هنا يمكن أن يحسب هذا الاختراق لصالح الدبلوماسية الاردنيّة الفاعلة التي توظفها الدولة الأردنية في مواجهة التعنّت الإسرائيلي .
و قد أُعطيت هذه الإنزالات دفعة قوية حينما خاطر جلالة الملك بحياته ليقود هذه الإنزالات بنفسه و هي خطوة رمزية و شجاعة ، فيها كثير من الدلالات السياسية ، و منها أن موضوع كسر الحصار على غزّة يحظى برعاية الملك شخصياً و بتوجيهات منه مباشرة ، و قد فتحت هذه الإنزالات كوّة مهمة في جدار الصمت العالمي إزاء التجويع المستهدف من العدو ، و أيضاً دفعت هذه الإنزالات بعض الدول في العالم للاقتداء بنهج الأردن في كسر الحصار على الإخوة الفلسطينيين في غزّة ، فضلاً عن إحراجها للموقف الإسرائيلي الذي يغلق المعابر البريّة أمام مئات الآلاف من أطنان المساعدات المكدّسة هناك !.
لكن موقف بعض التيارات السياسية في المعارضة داخلياً غير مفهوم و يدخل في باب المناكفة السياسية للدولة من جهة ، و السيطرة على الشارع و توجيهه من جهة أخرى ، فقد كانوا يطالبون بكسر الحصار فلمّا كسره الأردن عبر الإنزالات ، قالوا هذه إنزالات قليلة الأثر في الحدّ من حالة الجوع التي يواجهها الإخوة هناك ، و راحوا يحسبون عدد الوجبات التي تنزل و عدد الناس هناك ،في خطوة ظاهرها حرصهم على الناس و باطنها غمز في جدوى الخطوة الأردنيّة المقدّرة ، فلمّا زيدت و أصبحت بحجم أكبر بكثير من ذي قبل ، قالوا هذه حركات استعراضية و هوليودية ، إي و الله هكذا قالوا ، و كأن هؤلاء لا ينظرون إلى أي خطوة أردنيّة إلا من عين جاحدة و ناكرة لكل مجهود أردني ، و كأنهم ليسوا بأردنيين و هذه بلادهم !.
و يُمعن هؤلاء بالطعن بأي خطوة تبذل في هذا الشأن للتخفيف من عبء الحصار على أشقائنا من الشعب الفلسطيني في غزّة عندما استغلوا انحراف بعض صناديق الإغاثة نحو مغتصبة إسرائلية ، لا تتجاوز بضع صناديق قليلة ، فيسخرون من كلّ هذا الجهد الأردني ، الذي تقاعست عنه دول كثيرة برغم إمكاناتها الكبيرة و منها تلك التي طالما تغنوا بتجربتها فعندما عرفوا الحقيقة وراءها صمتوا صمت أهل القبور ، و ليس هذا حسب بل يغمزون من طرف هذه الخطوات إذ نزلت صناديق تابعة لدول أخرى شاركت في الإنزالات دون مظلاتها فأصابت بعض الناس بسوء و استشهد عدد منهم ، و راحوا يقللون من شأن هذه الخطوات مرة أخرى !، مع أن الجهات المعنيّة قد أصدرت بياناً توضح فيه أن هذه الصناديق ليست من الإنزال الجويّ الأردني !. و لكنها كما يقول المثل " مش رمانة و لكن قلوب مليانة "!.
لقد استطاع الأردن بقيادة جلالة الملك من إحداث تغييرات مهمّة في مواقف بعض الدول الداعمة للعدو و أصبحت هذه الدول تعبر عن مواقف ، ليست مرضية بالكليّة لنا ، مغايرة لتلك التي اتخذوها بداية الحرب ، فضلاً عن تشجيع تلك الدول التي كانت تتخذ موقفاً سياسياً قريباً من الموقف الأردني لتستتبع ذلك بخطوات جريئة نحو وقف الحرب و إنهاء معاناة إخواننا هناك في السياق الدولي ، و يحسب للأردن أنه وضع العالم أمام مسؤولياته حيال ما يجري في الضفة الغربية و غزّة ، و ما موقف الأردن الذي عبّر عنه جلالة الملك في البيت الأبيض و بحضور بايدن عن أذهان المنصفين ببعيد ، و الذي ظهر فيه الملك غاضباً و حازماً و شجاعاً بآن حينما يتخذ هذا الموقف و في البيت الأبيض ، و لا أظن أن العارفين في مجال تحليل الخطاب يختلفون معي على هذه الدلالات العميقة لموقف جلالة الملك حماه الله و رعاه