بعد استقالة الحكومة الفلسطينية برئاسة محمد شتية، وبعد ذهاب وفد الفصائل الفلسطينية إلى موسكو للتباحث في الشأن الفلسطيني وتشكيل حكومة تعكس كافة التيارات الفلسطينية وبمرجعية واحدة بحيث تتصدى لمهام المرحلة المقبلة من استثمار للصمود البطولي للمقاومة الفلسطينية، والتفاوض على تنفيذ فكرة إقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية والتي يطالب بها العالم كله تقريباً (ما عدا إسرائيل بالطبع)، بعد هذا كله تمنى الشعب الفلسطيني ومن ورائه الشعوب العربية والمسلمة بل كل متفهم ومتعاطف مع القضية الفلسطينية أن يتم التوافق بين الفصائل الفلسطينية وبالذات "فتح" و "حماس" ولكن للأسف انتهت الاجتماعات ببيان ينص على أهمية مواصلة الحوار الأمر الذي لا يعني سوى الفشل على الاتفاق !!
إنّ هذا الإخفاق المدوّي الذي يحدث في ظل مأساة الشعب الفلسطيني الذي يواجه حرب إبادة إسرائيلية في غزة (تهجير قسري، قتل، تدمير بُنى تحتية، تجويع)، وحرباً ليست أقل شراسة منها في الضفة الغربية (قتل ما لا يقل عن (400) شخص واعتقال ما يزيد عن (7000) ) يدعو إلى التساؤل: لماذا لا تتفق الفصائل الفلسطينية؟ وإذا لم تتفق في ظل ما يحدث الآن فمتى يمكن أن تتفق؟
إنّ عدم الاتفاق هذا يمكن أن يرجع إلى عوامل عديدة يجدر بنا أن نعيها وأن نفهمها ولعلّ أهمها:
أولاً: أن القضية الفلسطينية قضية معقدة وذات أبعاد متعددة وامتدادات متشعبة بحيث يختلف فيها الاجتهاد وانطلاقاً من هذه الحقيقة فقد اجتهد بعض قادة الفلسطينيين بأنّ الحلّ الأمثل في ظل توازنات القوى في العالم وبين الفلسطينيين والإسرائيليين هو النضال السلمي والسياسي وهو ما أخذت به القيادة الفلسطينية الرسمية (فتح التي تقود منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية حالياً) منذ أوسلو في عام 1993، وقد اجتهد قادة آخرون من الفلسطينيين بأن الحلّ الأمثل في ظل طبيعة العدو الإسرائيلي وأطماعه التوراتية وتحالفاته مع القوى الغربية هو المقاومة المسلحة (حماس والجهاد الإسلامي وبعض الفصائل الأخرى ومعظمها وبالذات حماس خارج منظمة التحرير الفلسطينية)، ومن الواضح أن هذين المنهجين مختلفان جذرياً ومن الصعوبة بمكان التقاؤهما، ولذا لا غرابة في أن تفشل كل المحاولات السابقة على اجتماع موسكو وآخرها لقاء الجزائر.
ثانياً: إن الإسرائيليين وهم الطرف الآخر المعني بالصراع يعمل بكل ما أوتي من قوة ووسائل على إدامة الصراع بين الفصائل الفلسطينية وبالذات فتح التي تقود السلطة الوطنية الفلسطينية حالياً وحماس التي كانت تحكم غزة إلى ما قبل معركة "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر، ومن المؤكد أن إسرائيل تستثمر علاقاتها التحالفية المميزة مع الولايات المتحدة ومع الاتحاد الأوروبي لتأجيج هذا الخلاف من خلال دعم السلطة الوطنية الفلسطينية وشيطنة حماس، ولذا فليس غريباً أنّ "نتنياهو" رئيس وزراء إسرائيل كان يسهل وصول الأموال إلى حماس ليس حباً فيها وإنما رغبةً في تكريس الانقسام الفلسطيني "وتأبيد" الفرقة بين الضفة والقطاع!
ثالثاً: إن بعض الدول العربية دأبت على تبني ودعم فصائل فلسطينية بعينها والعمل ضد الأخرى، الأمر الذي لا يجعل قرار هذه الفصائل بيدها، وإذا أخذنا بالاعتبار أن كثيراً من الفصائل لا تستطيع تمويل وتسليح نفسها ذاتياً أدركنا أهمية هذا البعد في إدامة الفرقة بين الفصائل وإلى درجة أن بعضها قاتل البعض الآخر في ظروف معينة يعرفها المتابع.
رابعاً: إن الدول الإقليمية والدول الكبرى دعّمت تقليدياً وتاريخياً بعض الفصائل الفلسطينية لأنها تتماهى مع سياستها، وتخدم مصالحها العُليا في النهاية، ومن هنا نستطيع أن نفهم لماذا تدعم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي "فتح" التي تقود السلطة الوطنية الفلسطينية بينما رفضت فوز حركة "حماس" في 2006 بل وضعتها في مصاف الحركات الإرهابية، ومن هنا أيضاً نستطيع أن نفهم لماذا تدّعم إيران حركة "حماس" رغم أنها حركة "شيعية" في حين أن إيران تتبنى الحركات الشيعية فقط في المنطقة (حزب الله في لبنان، الحوثيون في اليمن....). إنّ تأثير العامل الدولي على توجهات الفصائل الفلسطينية وسياساتها لا يقل أهمية عن العامل العربي في هذا المجال.
خامساً: ضعف الرأي العام الفلسطيني وتواضع قدرته في التأثير على الفصائل لكي تتوحد وتقدم القضية على اهتماماتها ومصالحها الفصائلية. إنّ الشعب الفلسطيني شعب متعلم وواعٍ وقد ناضل لما يقارب المائة عام في سبيل قضيته، ولكن هذا الشعب -وكباقي شعوب العالم الثالث- يفتقر إلى الآليات الديمقراطية الفاعلة التي تستطيع الضغط باتجاه التوحد. وللإنصاف فإن ظروف الاحتلال التي يرزح تحتها الشعب الفلسطيني ووجود أعداد كبيرة منه في الشتات يجعل من مهامه في هذا الاتجاه مسألة صعبة بل عسيرة.
وأخيراً فإنّ كل هذه العوامل يجب ألّا تقف عائقاً دون محاولة التوحد فما لم يكن هناك صوت فلسطيني واحد ينطق باسم الفلسطينيين، وينافح عن قضيتهم أمام العالم فإن تجاهل هذه القضية والتغاضي عن حيوتها سوف يظل وارداً، وسوف يظل الأعداء يقولون: ليس هناك جهة فلسطينية واحدة ومُخوّلة نتفاوض معها!