ما هو أبلغ درس تعلمناه، كأردنيين، من الحرب على غزة ؟ أكيد الدروس عديدة ومتنوعة، تتناسب، أحيانا، مع المزاج التعبوي العام الذي فرضته الحرب، ونفخ فيه البعض، وتتوافق، أحيانا أخرى، مع منطق العقلانية الذي يجب أن تفكر به الدولة والنخب الحريصة على بلدها، من وجهة نظري، أبلغ درس هو ضرورة الحفاظ على الدولة الأردنية، والالتفاف حولها، وعدم السماح لأحد أن يهددها أو يزاود عليها.
هذا لا يتعارض، أبدا، من انفتاحنا على اشقائنا ودعمنا المتواصل لهم، ولا مع القضايا الإنسانية التي تقع في صميم اهتماماتنا، لكن ما حدث في منطقتنا، خلال السنوات العشر الماضية، وفي الأشهر الخمسة المنصرفة تحديدا، يبعث لنا برسالة واضحة، عنوانها ترسيخ حالة (الاستثناء) الأردني، لا نريد أن ننجر لأي مغامرة، ولا أن نقع في أية حفرة، ولا ان نقايض على مصالح الدولة وأمننا الوطني بأي ثمن، أو تحت أي ذريعة.
في إطار مصلحة الدولة أولا، أُشير إلى مسألتين، الأولى : ترتيب البيت الأردني أصبح ضرورة واجبة، أما كيف ؟ فيحتاج إلى كلام طويل، ليس هذا مكانه، باختصار أن نعيد ثقة الأردنيين بدولتهم وأنفسهم ومؤسساتهم، وأن يحمل كل أردني رسالة الدولة وروايتها ويعتز بهما، هذا يحتاج إلى ورشة عمل كبيرة، وشخصيات وطنية مخلصة، وإرادة صادقة من قبل الإدارات العامة، لنخرج جميعا من دائرة الارتباك، والإحساس والخيبة، والمظلومية والانفرادية، والرغبه في الانتقام من كل شيء، إلى دائرة الإيمان بالأردن، والمزاحمة على خدمته، والإحساس بالعدالة، ورد التحية على الدولة باحسن منها.
المسألة الثانية : لا يمكن للدولة، أي دولة، أن تضمن سلامة حركتها، وتنسجم في خطابها وأفعالها مع حواضنها الاجتماعية والسياسية، وترسخ ثقة مواطنيها فيها، إلا إذا كان لديها مشروع وقضية و»عصبة»، أو نخبة حقيقية، تُعبّر عن قيمها وسلوكها، وتحمل رسالتها، وتدافع عن حدودها ووجودها، ولا بد أن تحظى هذه النخبة بالموثوقية والصدقية، وأن تمثل «الملهم» والنموذج، خاصة للأجيال الشابة، الإعلام، هنا بانواعه، مجرد أدوات ناقلة، تحتاج لمضامين ووجوه وطنية تملؤها، ما لم نتمكن من إيجاد هذه النخبة الوطنية التي يفترض أن تمثل خزانا لأفكار الدولة، وناصحين مخلصين لصناعي القرار، سنبقى نشعر بـ» اليتم» والعجز، وسنظل ندور في حلقات الخطأ والتجربة.
ما أفرزته الحرب، اردنيا، يكشف نقاط قوة يجب أن نعززها، أهمها حالة الانسجام الوطني، وقدرة بعض إدارات الدولة على الحركة والفعل بحرفية و وطنية، وبروز ملامح قضية اردنية استحقت الاستدارة، ووجدت من الأردنيين من يتبناها بقوة، ثم انبعاث لافت للهوية الوطنية، واعتزاز بالقيادة، لكن في موازاة ذلك، كان ثمة أخطاء ونقاط ضعف لابد من الانتباه إليها ومعالجتها، أهمها التصرف بانفعالية والاحتكام إلى خطاب الشارع، وغياب الطبقة السياسية، أو ما يسمى برجالات الدولة عن الميدان السياسي والإعلامي، وتمدد حالة المسؤول المرعوب، وعجز الأحزاب عن إنتاج خطاب وطني تتمايز به، ويقنع جمهورها، ثم بروز حالة غريبة من الاستقواء على الدولة، والإساءة إليها، من قبل أطراف محسوبة على العمل السياسي.
لقد اكتشف الأردنيون، خلال الفترة الماضية، أن ظهورهم مكشوفة، لا يستطيع أن يحميها أحد إلا هم، وأن الذين كانوا يمثلون عليهم دور الحماية لحقوق الإنسان، والديمقراطية، وحقوق الأسرة وغيرها من العناوين، مجرد «تجار « في بازارات التمويل الأجنبي، اكتشفوا، أيضا، أن كل ذرة من تراب بلدهم تستحق التضحية، وأن عتبهم وربما غضبهم على أداء بعض الإدارات العامة، بل وفقرهم وإحساسهم بغياب العدالة، قد يتبدد ويتلاشى أمام لحظة يشعرون فيها بكرامتهم الشخصية التي هي جزء من كرامتهم الوطنية، صحيح لن يتوقفوا عن المطالبة « بأردن» قوي، يحظى بالمنعة والازدهار، وخالٍ من كل موبقات الفساد، ومزادات اقتسام الغنائم، لكن الصحيح، أيضا، أنهم لا يمكن أن يتخلوا عن دولتهم أو يجرحوها، ولا يمكن أن يسكتوا على من يحاول الاستفراد بها، أو إخضاعها لأجنداتهم، وحساباتهم المجهولة.