مهما كان الموقف الشخصي للمحلل السياسي الموضوعي فإنه لا يملك إلّا أن يعترف بأن إيران أصبحت قوة إقليمية يُحسب حسابها ليس فقط من قبل القوى الإقليمية كالسعودية وإسرائيل وتركيا فحسب بل من قبل القوى الكبرى في العالم كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وروسيا والصين، وغيرها ولعلّ الدليل الأبلغ على ذلك أن الدول المهمة في العالم (الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن + ألمانيا) فيما يعرف (5 + 1) تتفاوض معها على برنامجها النووي، كما أن الدول الإقليمية المناوئة لها كالسعودية وإسرائيل لم تستطع أن تنال منها فالسعودية عقدت معها "الاتفاق السعودي الإيراني" بواسطة الصين ولكن هذا الاتفاق لم يضمن للسعودية أكثر من وقف هجمات الحوثيين (حلفاء إيران أو وكلائها إن شئت) على حدودها، وعدم المس بمصدر ثروتها (شركة أرامكو) بينما استمرت إيران في توسيع نفوذها وتكريسه في العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن، وأمّا إسرائيل وبرغم التهديدات التي تصدرها بشكل شبه يومي ضد إيران فإنها لم تستطع أن تفعل شيئاً بغير الضوء الأخضر الأمريكي حيث تريد الولايات المتحدة احتواء إيران ولكنها لا تريد خوض حرب معها بحكُم أن ذلك سوف يكون مكلفاً لها وبدون تحقيق أهداف استراتيجية ذات معنى بالنسبة إليها.
ولكن .... لماذا استطاعت إيران أن تكون هذه القوة الجيواستراتيجية في هذه المنطقة الحساسة من العالم؟ ما دوافعها الحقيقية؟ وما خلفيات سلوكها السياسي؟ إنّ هناك عدة عوامل تفسر السلوك السياسي الإيراني ونجاحها في تثبيت دورها كلاعب أساسي لا يمكن تجاوزه:
أولاً: العامل الأيديولوجي إذْ إن إيران ومنذ ثورتها في عام 1979 حاولت أن تتجاوز حدود دولتها (كيانها الجغرافي) وأن تنطق باسم من تسميهم "المستضعفين في الأرض"، وتعني بهم أتباع المذهب الشيعي الذين ربّما يُعانون من بعض أشكال الاضطهاد المذهبي في بلدانهم حسب وجهة نظرها، وانطلاقاً من هذه القاعدة حاولت تصدير ثورتها فاستقطبت أتباع مذهبها في العراق مكونة ما يُسمى "فيلق بدر" وغيرها من الكيانات التي انتظمت لاحقاً في ما يسمى "الحشد الشعبي"، وكذلك فعلت في لبنان من خلال دعمها "لحزب الله"، وفي سوريا من خلال دعمها "للفاطميين"، وفي اليمن من خلال دعمها "للحوثيين"، أما دعمها لحماس كجماعة سُنّية فهو يأتي في إطار صراعها مع إسرائيل والولايات المتحدة، ولعلّ هذا التحالف مع حماس بالذات يفيدها من حيث أنه ينفي عنها شُبهة التعصب المذهبي والمقصود تهمة أنها تناصر الجماعات الشيعية فقط ولأسباب مذهبية صرفة.
ثانياً: العامل القومي فالإيرانيون يعتقدون أنهم أصحاب ماضٍ تليد، فقد كانت لهم دولة كُبرى ذات يوم تمتد في كثير من بلدان ما يعرف الآن بالشرق الأوسط، وقد قارعت الدولة الفارسية الدولة البيزنطية حتى أصابهما الإنهاك وباتا لقمة سائغة للفاتحين العرب المسلمين، ولعلّ من الملفت للنظر حقاً أن بلاد فارس هي الوحيدة التي دخلها الفاتحون العرب المسلمون وتقبلت الإسلام دون اللغة العربية إذْ إنّ مُعظم الدول التي دخلها الفتح الإسلامي كانت تتقبل العربية والإسلام معاً (العراق، مصر، شمال إفريقيا ...). إنّ هذا الاعتزاز بالماضي المجيد يدفع الإيرانيين إلى محاولة استعادته ولذا فليس غريباً أن يقول أحد قادتهم بتبجح نحن نسيطر على أربع عواصم عربية (بغداد، دمشق، بيروت، صنعاء). صحيح أنّ إيران تُسمّي نفسها "جمهورية إيران الإسلامية" وتحاول أن تقدّم طابعها الإسلامي على أيّ طابع آخر، ولكن الصحيح أيضاً أن العامل القومي (الفارسي) مهم للغاية في فهم سلوكها السياسي وإن حاولت أن تواريه لصالح العامل الإسلامي.
ثالثاً: العامل المذهبي، والمقصود به احتمالية معاناة بعض المواطنين العرب ممن يعتنقون المذهب الشيعي من نوع من التهميش، الأمر الذي دفعهم إلى تقبُّل الدعم الإيراني بكل ما يترتب عليه من تحالف أو تبعية، وقد أغدقت إيران على هذه الفئات كافة أشكال الإسناد (يُقال أن حزب الله يتلقى أكثر من 900 مليون دولار سنوياً من إيران)، كما نظمتّها في ما يُسمى جبهة "الممانعة والمقاومة" وادّعت أن لكلٍ منها قراره المستقل في ظل ظروفه المحلية، والواقع هو أنّ إيران تظل هي المحور والمحرك بالنسبة لهؤلاء الحلفاء (أو الأذرع إن أردت)، كما أن التأثير الإيراني على المجتمعات التي تُوجد فيها هذه الفئات المذهبية يظل قائماً ومهماً.
رابعاً: العامل السياسي إذْ إنّ إيران ومنذ استقلت كدولة في ثلاثينيات القرن الماضي على يد "رضا شاه" والد شاه إيران محمد رضا بهلولي وقعت تحت النفوذ الغربي: البريطاني ثم الأمريكي وإلى حد أنّ البعد الإسلامي في الشخصية الإيرانية جرى تهميشه في خضم معركة قادها شاه إيران السابق الأخير "لتمدين" إيران وإلحاقها بركب الحضارة الغربية، الأمر الذي خلق ردّة فعل قوية ضد الهيمنة الغربية، ولا ننسى في هذا السياق اعتقاد الإيرانيين أن الغرب وقف إلى جانب عدوهم اللدود الرئيس العراقي السابق صدام حسين حين هاجم إيران في عام 1980 متجاهلين أنهم برغبتهم في تصدير "ثورتهم"، وعدم اعترافهم بشرعية أنظمة الحكم المجاورة وضعوا أنفسهم في مواجهة مفتوحة مع الجميع.
إن كل هذه العوامل مجتمعة ومتفاعلة هي التي تقف وراء السلوك السياسي الإيراني الحالي والذي نجح في الواقع في تكريس دور إيران الإقليمي، وفرض نفسها كقوة لا يمكن تجاوزها في المنطقة، ولعلّ أية مواجهة ناجحة معها تقتضي أولاً فهم هذه العوامل والخلفيات، والتعاطي معها بوعي وفهم.