غريبة هي حالة الإنكار والنهش في جسد الموقف الأردني تجاه القضية الفلسطينية تلك التي كانت وستبقى على صدارة الأولوية الوطنية، والأغرب أن الطعن يأتي من الداخل عبر أدوات وبرامج مكشوفة لجهات دأبت على استثمار المواقف حتى وإن كانت على حساب دماء الأشقاء ومارست عند المنعطفات فن صناعة التأزيم وتصدير الخلافات وبث الفتن والاستقواء على الدولة.
ويحضرني في هذا الموقف المكشوف والذي اعتدنا عليه رغم ما يعتصرنا من ألم تجاه الدمار والمجازر بحق أهلنا في غزة، قول المقنع الكندي حين لاقى النكران والخذلان من قومه: أسدُ به ما قد أخلوا وضيعوا..ثغور حقوق ما أطاقوا لها سدا، وهذا مختصر الكلام، فالأردن كان في جبهة فلسطين منذ اليوم الأول للعدوان الغاشم وأسهمت مواقفه بجلاء الحقائق وقلب موازين الرأي العام الدولي بعد أن كان منساقاً وراء رواية الاحتلال الكاذبة، بل إن جلالة الملك كان يقود عمليات إنزال جوي إغاثية للأشقاء في غزة، في محيط ملتهب وفي أجواء حرب لا يفعل معها هذا الفعل إلا جسور مقدام، وكان فلذات كبده ولي العهد سمو الأمير الحسين والأميرة سلمى في ذات الموقف، فهل هناك من مخاطرة وموقف أعظم من هذا يتناغم فيه رأس الدولة مع شعبه وجيشه الذي سالت دماء كوادره في المستشفيات الميدانية فاختلطت مع الدماء الزكية التي تروت بها أرض غزة.
لكن كل هذا رغم ما فيه من واجب الشقيق تجاه شقيقه، لم يعجب بعض الذين اعتادوا طعن الوطن من الداخل بخناجر مسمومة، وحاولوا عبثاً التشويش على الوطن عبر أبواقهم الآثمة ونقول لهم: نحن لا نكترث لكم، وسنمضي مع فلسطين وشعبها حتى نيل حقوقهم، ولكن عليكم أن تعودوا إلى جادة الصواب، فللصبر حدود، وللنقد آداب، وللرأي حرية لا تكون بالنيل من الأوطان، وقد شاهد الجميع بأم عينه ودون حاجة إلى أدلة كيف كان الوطن على المستويات كافة، من رأس الدولة جلالة الملك فالحكومة فالبرلمان فالأحزاب فالنقابات فالإعلام والمؤسسات المدنية والأهلية وحتى كل فرد فينا، في موقف متناغم مع الحق الفلسطيني، وقد تعامى البعض وأغمض عينيه ووضعه أصابعه في أذنيه حين انسعر إعلام الاحتلال على مواقف الملك والملكة والكثير من المسؤولين في الدولة، بل إن بعض تلك الأبواق كانت تجمل هجوم كُتاب الإعلام العبري وتسخدمها للنيل من الوطن، وكانت صفحات وهمية وأخرى موجهة من الخارج هي مصادر البعض في الانتقاص من موقفنا، فأيّ خطيئة بعد هذا كله، وأي جرم بحق الوطن استباح هؤلاء.
لقد زاد الأمر عن حده، وبقيت الدولة كعادتها تتحلى بالصبر، وهي التي يعلم الجميع أنها كانت إلى جانب كل موقف وطني حر مدافع ومندفع للتحرك والتعبير عبر كل الوسائل السلمية بالرفض للحرب ومساندة الأشقاء، وهذا نراه أقل الواجب ولا فضل ولا منة لشقيق على شقيقه، ولكن على الألسن التي اعتادت واستسهلت النيل من الأردن أن تنضب، فالأوطان لا تُقاد بالهاشتاغ ولا بالصفحات الوهمية، والمرحلة صعبة ولا تحتمل المراهقات وعلى الجميع العودة إلى مربع الوطن، فنحن على جبهات حرب، حدودنا الشرقية والشمالية يعلم الجميع حجم الجهد المبذول لحمايتها ومنع تسلل أي إرهابي منها، بل أن بعض الساهرين على الشاشات ليلاً لا يعلمون أن نشامى الجيش لا ينامون أياماً لكي لا تدخل حبة مخدرات واحدة قد تصل إلى أبنائنا.
خلاصة القول: كفى جلداً للوطن، ولينهض كل مسؤول بعمله، وعلى المختبئين خلف الشاشات موجهين الجهلاء والدهماء نحو الطعن بخاصرة الوطن أن يعودوا إلى حضن الوطن الطاهر بدلاً مما يرتدون من حمايات خبيثة، وعلى كل من يصنفون أنفسهم رجال دولة، وكل من تنعموا من خيرات الوطن، أن يخرجوا من مخابئهم وأن يكفوا عن إغلاق هواتفهم أو تحويلها لحالة طيران، فكل شيء مكشوف، فهل وصل الأمر بكم أن تخشوا مواجهة جيوش وهمية عبر منصات التواصل الاجتماعي باتت تنهش جسد الدولة عند كل منعطف، وعلى كل الواهمين الذين استسهلوا النيل من وطنهم أن يعودوا لقراءة تاريخ الوطن، فالأردن قوي الشوكة وإرثه ضارب في العمق، وكلس الدولة صلب، فإن اشتكى من ألم القريب والبعيد حيناً، فهو لا ينكسر، وإن أصابه مكروه فعنده قيادة وجيش وأجهزة ورجال تعرف كيف تجبر الكسر، وتعرف كيف تسير بركب الوطن واثقة بالله ومن ثم مسنودة بشعب مخلص وفيّ، تزدان صدور بيوتهم بصور الشهداء على أسوار القدس وفي الكرامة وفي كل معارك الشرف والفداء.