ما لم يُحسم سؤال المواطنة في بلادنا بإجابات «توافقية» عادلة، فإننا سنظل أسرى لمعادلة «مفخخة» بالاستقطابات والهواجس والمخاوف، وسيدفع مجتمعنا من عافيته ثمناً باهظاً لصراعات «نخبوية»، ما زالت تتغذى على أفكار ومقولات «قاتلة».
أعرف أن البعض سيتحفظ على الفكرة، بحجة أن المواطنة محسومة دستورياً، وأن المواطن معرّف قانونياً، او بذريعة أن الأردنيين لا يعانون في الأصل من «العنصرية»، وانهم انصهروا اجتماعياً بروابط الدم والنسب مما أسفر عن توحيد هويتهم، هذا صحيح، لكن المشكلة تكمن في «مزادات» السياسة التي استقوت على المواطنة وعبثت بها، تماماً كما عبثت بالمجتمع وزرعت فيه فزاعات الهويات القلقة، ثم كسّرت وسائطه الاجتماعية الضامنة لانسجامه، وافقدته بالتالي القدرة على «لمّ الشمل» في إطار وطني يستند الى الإحساس بالمواطنة العابرة لكل الأعراق والأديان والمنابت الجغرافية.
لا تستقيم المواطنة على سكتها الصحيحة الا اذا انتصبت موازين العدالة، فالدولة العادلة هي دولة المواطنة، وفيها لا يصح ان نسأل : من المواطن الأصيل والآخر البديل، أو ان نظل نردد أسئلة سخيفة مثل «من أنتم؟»، او نتجادل حول هويات فرعية وملاذات «حزبية « ونضعها ندّاً للدولة، كل هذه الموبقات السياسية والاجتماعية التي أعادتنا للوراء كانت نتيجة طبيعية لوصفة «محاصصات» صرفناها من صيدلية التشريعيات والمقررات «المسلوقة»، وفوضى حراكات انتهازية تاجرت بقضايا من خارج الحدود، وحاولت ان تحوّل المواطنين إلى مطايا، وقد دفعنا ثمنها، وما نزال، من عافية مجتمعنا وبلدنا أيضاً.
الأردنيون يدركون تماماً أن الأردن التاريخ والمشروع والانسان أكبر من قسمة الثنائيات والغنائم، وان دماء أجدادهم وآبائهم التي خضبت تراب الأردن وفلسطين أغلى من ان تدرج في المزادات «السياسية» المزدحمة بأصوات البائعين والمشترين، الأردنيون يعرفون ايضاً ان المواطن النظيف «مسؤول» نظيف ووطني بالضرورة، دون ان يضطر لتقديم شهادة ميلاده، او التعريف بالأصل الذي ينتسب اليه.
إذا سألتني: لماذا استقال أغلبية الأردنيين من المشاركة في العمل العام، ومن الاصطفاف في الطوابير أمام صناديق «الانتخاب»، ولماذا يشهرون عدم ثقتهم بمؤسساتهم ويحتفلون عندما تحل برلماناتهم، ولماذا يتلذذون بالشكوى والتذمر والاحساس بالإحباط، ولا يرون في مجتمعهم الا صور الفشل رغم ما يحققه أبناؤهم من ابداعات وانجازات مشرقة؟ سأجيبك دون تردد، إنهم يبحثون عن «المواطنة» الحقة والعادلة، المواطنة التي تنصرف بالضرورة في سياق الوطنية الصادقة التي تنتمي للأردن الدولة والوطن، وتؤمن بأنه قضيتها الأولى، فهي كفيلة بأن تنزع من صدورهم كل هذا «السواد» والاستقطاب المغشوش.