كنت استمع لاحد السياسين الذين صنعتهم الصدفة،و وما أكثرهم في أيامنا هذه، حيث كان يحلل لجمع من الناس ماجرى ويجري في غزة، ويعتبره مغامرة غير محسوبة من حركة المقاومة الإسلامية، وان مايحدث في غزة من ارتقاء الشهداء، وتكاثر الجرحى، وهدم المساكن والمنشآت سيذهب سدا باعتبار ان إسرائيل قوة لا تغلب.
أصحاب هذا الرأي من ساسة الصدفة وغيرهم ممن يؤمنون بهذا التحليل الفج لما يجري في غزة، يتجاهلون ماكانت غزة تعانيه من حصار خانق امتد لسنوات طويلة حولها إلى أكبر سجن في العالم، بالاضافة الى التجويع والقتل المستمر، ناهيك عن تجاهلهم لما كان بخططه العدو الصهيوني من تهجير لأهلها بهدف السيطرة على ثرواتها الطبيعية خاصة المخزون الهائل من الغاز الطبيعي في بحرها. والاهم من ذلك أن اصحاب هذا الرأي هم جهلة بقواعدصناعة التحولات التاريخية الكبرى، وأسس صناعة النصر، وأولها ان صناعة النصر أغلى ثمنا واعلى كلفة من الهزيمة، فما على المهزوم الا ان يرمي سلاحه ويستسلم ليعيش ذليلا تحت بسطار المنتصر، وهو في ذلك يدفع ضريبة الذل وهي اقسى من ضريبة الكرامة التي تصنع النصر لمن يدفعها، لذلك اختار الله لنبية (ذات الشوكة) ، فدفع عليه السلام ضريبة الإنتصار فؤذي في بلده وحوصر واتباعه وأهله في شعب مكة ثلاث سنين حتى أكلوا لحاء الشجر، ثم هجر عليه السلام من مدينته وأهله، فصبر واحتسب حتى انتصر بعد ان اعد للأمر عدته، واخذ بأسباب النصر.
لقد كان الله عز وجل قادر على نصر رسوله بدون كل هذا العناء الذي مر به عليه السلام، لكن الله أراد من خلال سيرة نبيه بل ومعظم وانبيائه ورسله ان يعلم خلقه ان التضحية والفداء مع الصبر و الأعداد هما طريق النصر واحداث التغير، وهي حقيقة لا يدركها الذين يأخذون الأمور بظواهرها، وهؤلاء يعتقدون ان إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة الأمريكية قوة لاتهزم، وهم بذلك يتناسون ان إسرائيل منذ حزيران 1967 لم تكسب معركة خاضتها مع امتنا، فقد هزمت في معركة الكرامة وهزمت في حرب رمضان 1973، وهزمت في جنوب لبنان، وهاهي تهزم على مدار الشهور الماضية في قطاع غزة ومعها الولايات المتحدة الأمريكية، التي هزمت في فيتنام وأفغانستان والعراق، وهاهي تهزم في غزة حيث تفرض حركة المقاومة الإسلامية عليهما وعلى من يسير في ركابهما شروط المنتصر. وهي حقيقة لايريد ان يعترف بها أولئك الذين يعتقدون ان امريكا قدر لايرد، وأن جيش إسرائيل لايقهر، رغم كل الشواهد على هزيمة أمريكا، والأدلة على انكسار الجيش الإسرائيلي.
في صموده وتضحيته فان قطاع غزة ينظم الى المدن التي صمدت وضحت فصنعت تحولات جذرية في سير الحروب، فصنعت نصرا مؤزرا لشعبها وأمتها مثلما فعلت مدينة للنغراد في الحرب العالمية الثانية، حيث هاجمتها قوات النازي وحلفائه في صيف 1942 حيث تم اوالا: دك المدينة بسلاح الجو الذي نفذ حملات قصف جوي عنيف ومتواصل على المدينة حولتها إلى أنقاض وأطلال وذلك قبل دخول الجيوش البرية اليها. لتجد هذه الجيوش
نفسها غارقة في حرب مُدن من المنازل والشوارع، فاحتدم القتال في المدينة دون الأخذ بعين الإعتبار لسقوط الضحايا من المدنيين والعسكريين، حيث بلغت الخسائر البشرية في هذه المعركة حوالي مليوني ضحية، بالإضافة إلى تدمير الغالبية الساحقة من مبانيها، ما يصنفها كإحدى أكبر المعارك دموية في تاريخ الحروب، وكان لها الدور الأكبر في تحوّل مجرى الحرب العالمية الثانية، فلم يستعد النازيون قوتهم السابقة بعد معركة للنغراد، ولم يحققوا بعدها أي انتصار استراتيجي في الشرق. وهو بالضبط مايجري للجيش الاسرائيلي وحلفائه في غزة.
وهو ماتكرر في سراييفو،عاصمة البوسنة والهرسك التي تعرضت لأطول حصار في أوروبا فرضته القوات الصربية عليها، استمر من نيسان 1992م إلى تشرين الثاني 1995م، بعد أن سيطرت قوات صربيا على الجبال المحيطة بالمدينة، وتمكنت من السيطرة ناريا على مدرج مطار سراييفو، الذي كان يفصل بين منطقتين يسيطر عليهما الجيش البوسني (دوبرينيا وبوتمير)،حيث تم قتل نحو 500 بوسني برصاص القناصة وهم يحاولون عبور المدرج، ليكونوا ضمن 11 ألفا و541 شخصا ماتوا نتيجة الحصار الذي يعتبر الأطول بعد حصار ستالينغراد في الحرب العالمية الثانية.غير ان البوسنيين لم يستسلموا لعدوهم فبدؤوا
في نيسان 1993 بحفر نفق أرضي ليستطيعوا من خلاله كسر الحصار وإمداد سراييفو بالطعام، والسلاح والجنود للصمود في المعركة،حيث استمر حفر النفق لمدة 104 أيام، وبطول 800 متر، وارتفاع متر ونصف، وتم من خلاله إنقاذ حياة نصف مليون بوسني كانوا بين خيارين إما الإستسلام للصرب وإما الموت جوعاً. وأطلق على ذلك النفق اسم"نفق الحياة". فما أشبه ماجرى في سراييفو بما يجري في غزة، وكما انتصرت سراييفو ستنتصر غزة فقد دفعت مثل للنغراد سراييفو ضريبة النصر ورفضت دفع ضريبة الاستسلام والذل.