قبل نحو الف وخمسين عاما وفي إحدى فترات العصر العباسي، كان الشاعر المتنبي يلازم الأمير سيف الدولة الحمداني في حروبه ومعاركه ومجالسه وصولاته وجولاته؛ يصف ويمدح ويدافع ويشن هجوما وكل ذلك بشعره، تقربا من هذا القائد لينال مكانة.
ذات يوم وفي حوض ومجرى نهر الأردن الممتد في الشام، والذي يفصل بين الأردن وفلسطين ويخترق وادي الأردن وصولا للبحر الميت، مر الأمير برفقة جنوده وحاشيته ويرافقهم شاعره المتنبي، وفجأة خرج عليهم أسد غضوب هزبر عظيم مخضب بالدماء ذو زئير مخيف، فما كان من الأمير سيف الدولة الحمداني إلا وأن إستل سوطه (الكرباج) وضرب التراب، فعفر الأسد بالغبار ليفر الأخير هاربا خائفا.
شاعرنا المتنبي لم يكن ليفوت علينا وصف المشهد بشعره، فقال قصيدته المشهورة بمدح الأمير"أمعفر الليث الهزبر"، وبين فيها دقة الحدث ببراعة كبيرة، مبينا أيضا بأن الحدث وقع على ضفاف نهر الأردن حيث جاء الأسد ليرد الماء ويشرب، وكان بمطلعها ينادي الأمير بصفته الشجاعة التي بدت منه "أمعفر الليث الهزبر بسوطه لمن إدخرت الصارم المصقولا؟... إلخ" ...
وشرح الصورة البلاغية والكناية هنا بمعنى (ينادي الشاعر الأمير قائلا: يا معفر الليث العظيم بسوطك... لمن تدخر السيف الحاد القاطع إذن؟)، فيصور المشهد بأن الأمير لم يهتم لأمر الأسد وعفره بالغبار بسوطه، فبالتأكيد أن السيف يدخره لمعركة كبيرة وعدو أشرس من الأسد، وحيث أنه لن يكون بالطبع أي رجل بقوة الأسد، فإن الأمير سيف الدولة لن يقف أمامه خصم، وأن النصر حاصلا له بكل معاركه.
وكان من طبع الشعراء آنذاك وعند وصف النصر بالمعركة ومدح القائد، أن يبينوا قوة الخصم أو العدو الذي هزم، ليزيد ذلك من مكانة وبريق النصر، وقد وصف المتنبي هذا الأسد بحجمه الكبير وقوته وتخضب لبدته بالدماء لكثرة إفتراسه، وأن زئيره مجلجل جدا.
بالتحليل ما بين جو القصيدة والعلم فأن الأسد القوي البالغ يأكل يوميا ليحافظ على قوته وصحته نحو سبعة كيلوغرامات من اللحوم، وبالتأكيد تعيش الأسود ضمن جماعات لتحمي نفسها وتتكاثر، وعليه فإن حوض نهر الأردن وحسب مساحته كموئل طبيعي آنذاك كان يعيش به مئات الأسود ما بين الذكور واللبؤات والأشبال، مما يتطلب يوميا توفر آلاف الكيلوغرامات من لحوم الفرائس العاشبة؛ من غزلان وحمير وحشية وغيرها.
في الهرم البيئي أو هرم الطاقة فالأمر هنا يشير إلى وجود عشرات الآلاف من أفراد هذه الفرائس من العاشبات وقطعانها، والتي تأتي بالمرتبة الثانية بعد الأسود والمفترسات الأخرى من الثعالب والضباع والذئاب وغيرها والتي تأتي في رأس الهرم.
هذه الأعداد من العاشبات والمذكورة من أشكال الفرائس في موئل حوض نهر الأردن وبيئته الطبيعية، والتي تخترق الأغوار وتصل شمالا بحيرة الحولة وطبريا، وتصل البحر الميت جنوبا، تحتاج لكي تعيش وتستمر إلى مساحات كبيرة من الأراضي الخصبة جيدة الأمطار (بما يتجاوز 400 ملم سنويا)، مقابل وفرة الاشعاع الشمسي، لكي تستطيع أن تنمو فيها الحشائش والنباتات والتي تعد غذاء هذه الفرائس.
بالطبع فهنالك وفرة في النظام البيئي المذكور ترافق مراتب الهرم المذكور من أشكال التنوع الحيوي، من طيور وزواحف وحشرات ومحللات بيئية، ليحصل التكامل والإتزان البيئي.
الحال والوصف يشمل كل حوض نهر الأردن كموئل طبيعي ليوفر الغذاء المطلوب من أعشاب ونباتات، وعليه يجب أن يشمل كذلك المناطق الشفوية، ومنها كل مدننا الأردنية الحالية ومدن فلسطين الشفوية كذلك.
صور ورسومات الجدران في القصور الصحراوية التي بنيت في تلك الفترة وقريبا منها، تؤكد على وجود تنوع حيوي في الأردن، وحتى لوحات الفسيفساء في الكنائس الأثرية تؤكد ذلك.
الصورة أعلاه محاولة لجمع الأمور بنموذج علمي يبين طبيعة مناخنا في المملكة قبل نحو ألف عام، أي في عصر الشاعر المتنبي، بما فيها الوفرة المائية والغذائية والتنوع الحيوي بأشكاله، وذلك في حوض نهر الأردن ومدننا الشفوية.
في علم جيولوجيا المناخ القديم وعلم الآثار البيئي يمكن الكشف عن طبيعة المناخ في فترة ما بعمليات معقدة، وذلك من خلال دراسات الطبقات والتربة وبقايا الأحافير والأشجار والفحم وحبيبات اللقاح والبذور وغيرها، وتربط مع دراسات عينات النظائر المشعة لتحديد الأعمار، وتقديم دلائل على الوفرة المائية والظروف البيئية.
المتنبي بليثه الهزبر قد يكون إختصر علينا الطريق لبيان بيئة ومناخ حوض نهر الأردن قبل نحو ألف عام.
إلى القصيدة كاملة:
أَمُعَفِّرَ اللَيثِ الهِزَبرِ بِسَوطِهِ
لِمَنِ اِدَّخَرتَ الصارِمَ المَصقولا
وَقَعَت عَلى الأُردُنِّ مِنهُ بَلِيَّةٌ
نُضِدَت بِها هامُ الرِفاقِ تُلولا
وَردٌ إِذا وَرَدَ البُحَيرَةَ شارِباً
وَرَدَ الفُراتَ زَئيرُهُ وَالنيلا
مُتَخَضِّبٌ بِدَمِ الفَوارِسِ لابِسٌ
في غيلِهِ مِن لِبدَتَيهِ غيلا
ما قوبِلَت عَيناهُ إِلّا ظُنَّتا
تَحتَ الدُجى نارَ الفَريقِ حُلولا
في وَحدَةِ الرُهبانِ إِلّا أَنَّهُ
لا يَعرِفُ التَحريمَ وَالتَحليلا
يَطَءُ الثَرى مُتَرَفِّقاً مِن تيهِهِ
فَكَأَنَّهُ آسٍ يَجُسُّ عَليلا
وَيَرُدُّ عُفرَتَهُ إِلى يافوخِهِ
حَتّى تَصيرَ لِرَأسِهِ إِكليلا
وَتَظُنُّهُ مِمّا يُزَمجِرُ نَفسُهُ
عَنها لِشِدَّةِ غَيظِهِ مَشغولا
قَصَرَت مَخافَتُهُ الخُطى فَكَأَنَّما
رَكِبَ الكَمِيُّ جَوادَهُ مَشكولا
أَلقى فَريسَتَهُ وَبَربَرَ دونَها
وَقَرُبتَ قُرباً خالَهُ تَطفيلا
فَتَشابَهُ الخُلُقانِ في إِقدامِهِ
وَتَخالَفا في بَذلِكَ المَأكولا
أَسَدٌ يَرى عُضوَيهِ فيكَ كِلَيهِما
مَتناً أَزَلَّ وَساعِداً مَفتولا
في سَرجِ ظامِئَةِ الفُصوصِ طِمِرَّةٍ
يَأبى تَفَرُّدُها لَها التَمثيلا
نَيّالَةِ الطَلَباتِ لَولا أَنَّها
تُعطي مَكانَ لِجامِها ما نيلا
تَندى سَوالِفُها إِذا اِستَحضَرتَها
وَيُظَنَّ عَقدُ عِنانِها مَحلولا
ما زالَ يَجمَعُ نَفسَهُ في زَورِهِ
حَتّى حَسِبتَ العَرضَ مِنهُ الطولا
وَيَدُقُّ بِالصَدرِ الحِجارَ كَأَنَّهُ
يَبغي إِلى ما في الحَضيضِ سَبيلا
وَكَأَنَّهُ غَرَّتهُ عَينٌ فَاِدَّنى
لا يُبصِرُ الخَطبَ الجَليلَ جَليلا
أَنَفُ الكَريمِ مِنَ الدَنِيَّةِ تارِكٌ
في عَينِهِ العَدَدَ الكَثيرَ قَليلا
وَالعارُ مَضّاضٌ وَلَيسَ بِخائِفٍ
مِن حَتفِهِ مَن خافَ مِمّا قيلا
سَبَقَ اِلتِقاءَكَهُ بِوَثبَةِ هاجِمٍ
لَو لَم تُصادِمُهُ لَجازَكَ ميلا
خَذَلَتهُ قُوَّتُهُ وَقَد كافَحتَهُ
فَاِستَنصَرَ التَسليمَ وَالتَجديلا
قَبَضَت مَنِيَّتُهُ يَدَيهِ وَعُنقَهُ
فَكَأَنَّما صادَفتَهُ مَغلولا
سَمِعَ اِبنُ عَمَّتِهي بِهِ وَبِحالِهِ
فَنَجا يُهَروِلُ مِنكَ أَمسِ مَهولا
وَأَمَرُّ مِمّا فَرَّ مِنهُ فِرارُهُ
وَكَقَتلِهِ أَن لا يَموتَ قَتيلا
تَلَفُ الَّذي اِتَّخَذَ الجَراءَةَ خُلَّةً
وَعَظَ الَّذي اِتَّخَذَ الفِرارَ خَليلا
لَو كانَ عِلمُكَ بِالإِلَهِ مُقَسَّماً
في الناسِ ما بَعَثَ الإِلَهُ رَسولا
لَو كانَ لَفظُكَ فيهِمِ ما أَنزَلَ الـ
قُرآنَ وَالتَوراةَ وَالإِنجيلا
لَو كانَ ما تُعطِيهِمِ مِن قَبلِ أَن
تُعطِيهِمِ لَم يَعرِفوا التَأميلا
فَلَقَد عُرِفتَ وَما عُرِفتَ حَقيقَةً
وَلَقَد جُهِلتَ وَما جُهِلتَ خُمولا
نَطَقَت بِسُؤدُدِكَ الحَمامُ تَغَنِّياً
وَبِما تُجَشِّمُها الجِيادُ صَهيلا
ما كُلُّ مَن طَلَبَ المَعالِيَ نافِذاً
فيها وَلا كُلُّ الرِجالِ فُحولا