تصويت الكنيست الصهيوني بأغلبية 99 نائبًا من أصل 120 نائبًا ضد الاعتراف الأحادي بالدولة الفلسطينية ليس منقطعًا عن سياق الموقف العميق لهذا الكيان ورفضه المطلق لفكرة إقامة دولة فلسطينية.
وأي محاولة من أيٍّ كان للتقليل من أهمية وخطورة هذا التصويت ليست في مكانها ولا تعبّر عن فهم سياسي دقيق للطريقة التي يفكر فيها الكيان، ألم يكن الأصل أن تقام الدولة الفلسطينية بعد خمس سنوات من توقيع اتفاقية أوسلو 1993؟.
نعم، نصت اتفاقية أوسلو على إقامة الدولة الفلسطينية في غضون خمس سنوات من توقيعها، لكنها إلى الآن لم تقم، والمعطيات كلها تؤكد أنها لن تقام، لا بل أن "إسرائيل" فعلت كل ما من شأنه أن يمنع إقامتها، وهو ما اعترف به رئيس حكومة الكيان بنيامين نتانياهو وتباهى به.
فكيف ستقام دولة فلسطينية وأراضي هذه الدولة المفترضة (الضفة الغربية بما فيها القدس) مزروعة بنحو 145 مستوطنة و170 بؤرة استيطانية و700 حاجز عسكري، فيما في العام 1993 كان تعداد المستوطنين قرابة 100 ألف مستوطن فقط واليوم يبلغ تعدادهم في الضفة الغربية نحو 700 ألف مستوطن.
وإذا ما فحصنا تصويت الكنيست سنجد أن كل المكونات السياسية الإسرائيلية أجمعت على رفض الاعتراف الأحادي بالدولة الفلسطينية، بما في ذلك القوى التي تعارض وتناوئ اليمين المتطرف الحاكم، فالجميع هناك يرون أن الدولة الفلسطينية تمثل تهديدًا وجوديًا لكيانهم.
هذا يعني أن التباينات السياسية الراهنة داخل الكيان تجري تحت سقف رفض إقامة الدولة الفلسطينية، وأن هذا الكيان مستعد للتصادم مع أميركا بهذا الشأن، وبخاصة إذا علمنا أن تصويت الكنيست جاء ردًا على زعم واشنطن أنها تدرس الاعتراف بالدولة الفلسطينية وأنها بصدد "وضع جدول زمني صارم لإقامتها".
هنا، من المهم أن يطرح التساؤل التالي: كيف يقرأ الأردن وتقرأ مصر تصويت الكنيست ومعانيه ومآلاته؟
الأصل أن الأردن ومصر تعيان من حيث المبدأ أن الموقف الأميركي من مسألة الاعتراف الأحادي بالدولة الفلسطينية لا يُجاوز حدود الموقف النظري، لا العملي، وأملته على إدارة الرئيس بايدن (الحزب الديمقراطي) الانتخابات الرئاسية هذا العام والصعوبات التي يواجهها أمام الحزب الجمهوري ومرشحه المحتمل دونالد ترمب.
أي؛ يفترض بالأردن ومصر عدم الاتكاء على موقف الإدارة الأميركية الحالية بشأن الدولة الفلسطينية، وأن تعلما أن المسألة ليست أكثر من حالة دعائية انتخابية وفي جزء منها مواجهة الانتقادات والاتهامات بالانحياز المطلق للكيان التي تنصبّ على رأس الإدارة الأميركية بسبب موقفها من العدوان الغاشم على قطاع غزة.
ويصبح أمر إقامة الدولة الفلسطينية، منعدمًا تمامًا إذا ما فاز الجمهوري ترمب بالرئاسة، أليس هو من اعترف بالقدس عاصمة موحدة للكيان ونقل سفارة بلاده إليها؟ وأيضًا أليس هو راعي تطبيع العلاقات بين الدول العربية و"إسرائيل" وسوّق لذلك عبر ما سمي "صفقة القرن"؟.
معنى ذلك أن التعويل على أميركا للضغط وإقامة الدولة الفسطينية تعويل مقامر وليس له حظ في الواقع، فأميركا تحسب مصالحها في المنطقة من المنظور الإسرائيلي البحت، فالكيان قلعتها ورأس رمحها ولا أحد غيره.
"إسرائيل" نفسها، وهذا ما على الأردن ومصر إدراكه، ليست بوارد إقامة الدولة الفلسطينية، وهي تفعل كل شيء لمنع إقامتها، وأصبحت أكثر تشددًا بعد هزيمتها المذلة في "طوفان الأقصى".
والواضح اليوم أن الجمهور الإسرائيلي أميَل للتطرف، وقد ترجم ذلك في انحيازاته لمنطق الأحزاب المتطرفة التي يقودها بنيامين نتانياهو وإيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريش وأرييه درعي.
حتى المعارضة التي يقودها يائير لبيد وبيني غانتس وغادي أزينكوت تتماهى مع المتطرفين في مسألة رفض إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ظهر جليًا في تصويت الكينست الأخير وغير المسبوق بأغلبيته.
هذه مسألة لا بد وأنّ كلّاً من الأردن ومصر تتوقفا عندها مليّاً وتدققا في معانيها، وهما أكثر دولتين تضغطان في كل المناسبات لإقامة الدولة الفلسطينية بوصفها أساس الاستقرار والأمن في المنطقة وضمانة لأمنهما القومي، ومن قبل بوصفها حقًا فلسطينيا خالصا يكفله المنطق والتاريخ وقرارات الشرعية الدولية.
لكن هذا الضغط لم يأت بنتيجة، والأمر يزداد صعوبة وتعقيدًا، وفرص إقامة الدولة الفلسطينية تتآكل على نحو متسارع وبخاصة في ظل الواقع الراهن.
وإذا ما كان إدراك عمّان والقاهرة متبلورًا في سياق هذا الواقع، فعليهما، وأظنهما يفعلان ذلك، أن تسألا التالي: إذا كانت "إسرائيل" ليست بوارد إقامة الدولة الفلسطينية، فما الأفق؟ وما هو مخططها (أي إسرائيل) حيال هذا الأمر؟.
إن إجابة السؤال لا بد وأن تأخذ البلدين إلى حقيقة أن كل ما تخطط له "إسرائيل" هو تصفية القضية الفلسطينية على حسابهما، والأردن تحديدًا، فهذا الكيان خلق وقائع على الأرض تصب في هذا الاتجاه.
وهذا الكيان، إذا خرج محقِّقًا أهدافه في قطاع غزة، لا قدّر الله، سيظن أن هذه الفرصة لن تتكرر لإنفاذ مخطط تصفية القضية الفلسطينية.
لن يوقف "إسرائيل" إلا إنكسارها على يد المقاومة في غزة، وموقفٍ عربيٍّ جمعيٍّ جديٍّ وعمليّ، يخاطب "إسرائيل" وأميركا بأن كامل العلاقة معهما رهن بإقامة الدولة الفلسطينية، ومن قبل وقف العدوان على القطاع.
ما لم يحدث ذلك، فعلينا أن نستعد لدفع ثمن باهظ، وباهظ جدًا.. فالأمر لا يحتمل أن تجامل على وجودك..