لم يكن يوم السابع من شباط عام ١٩٩٩ عاديًّا لشاب دخل العقد الثاني من عمره يقف مثل غيره من آلاف من الأردنيين أمام المدينة الطبية في طقس ملبد بالغيوم باردًا ماطرًا؛ ليودع قائدًا استثنائيًّا قلّ نظيره، لم يعرف غالبية الأردنيين قائدًا غيره خلال ٤٧ عامًا، كان يومًا لم نرَ به باقي الألوان عدا الأسود والأبيض، اختلط به صوت القرآن الكريم في المكان الصادر من مكبرات سيارات الأمن العام والمواطنين، مع بكاء النشميات والنشامى؛ إذ كنا هناك نودع والدنا، جلالة المغفور له الملك الحسين طيب الله ثراه، الذي لم يخطر في بالنا أبدًا أن نرى الأردن بدونه، يومها أذكر جيدًا أنني عدت إلى بيتي شابًا مكسورًا، ورأيت والدي فيها لأول مرة - الذي كنت أعهده دائمًا في أحلك الظروف صلبًا قويَّ الإرادة والعزيمة - يبكي كطفل فقد أغلى ما يملك، فقدّرت أن الخسارة كبيرة لقائد كان اسمه ملء السمع والبصر في نواحي العالم الأربع .
في ذاك اليوم شاهدنا جميعًا الأمير الشاب بطل القوات الخاصة - في أذهاننا، بشماغه المهدب - وهو يصعد الدرجات تحت قبة البرلمان؛ ليؤدي القسم ملكًا على البلاد بعد أن وقف لحظة أمام صورة سيدنا الحسين رحمه الله الذي كانت هالته تهيمن على القاعة بكاملها، ينظر له الراحل الكبير نظرة الأب والقائد، ويؤكد له ثقته به لمواصلة المسيرة وقدرته على حمل أمانة المسؤولية الأولى، فيما يعاهده عبدالله الثاني بأن يكون بارًّا بقسمه ورعاية الأردنيين، والأخلاص لأمته.
مات الملك، عاش الملك... في براغماتية خالصة، هذه قواعد الحكم ومتطلبات استقراره .
أحبّ أبيه كما أحببناه وبايعناه، وسعى راعيًا للأردنيين لا حاكمًا لهم؛ لتعزيز البنيان ومستقبل أفضل لهم، وفق نهج إصلاحي يستشرف المستقبل بادواته ففاجأ الجميع (داخليًّا وخارجيًّا )الذين راهنوا على عدم صموده .
كان البعض يعقد المقارنات، لكنه في الحقيقة من الصعب مقارنة أي إنسان بغيره، فلكل شخص طريقته في إدارة الأمور، وتحقيق الأفضل .
بعد خمسة وعشرين عامًا أشعر يامولاي كمواطن يحبك كسائر شعبك بالعزة والشموخ غير المرتبط بأي ظروف ومصالح، فقد كنت وزيرًا ، وخرجت بدون تقاعد؛ انصياعًا للقانون الجديد نسبيًّا في دولة القانون والمؤسسات ، فحب الوطن يكون "على الحلوة والمرة" ولا يجب أن يكون مرتبطًا بأي أمر شخصي أو جلب مصلحة فردية، بل بالعكس، أشكر ربي على نعمه الكثيرة التي أنعمها عليّ وأهمها ثقة سيدنا بي بأن كنت وزيرًا وشرفني بخدمة وطني والأردنيين سنتين، وهذا أمر - أبدًا - لا يقدر بالمال أو بأي امتيازات أخرى، وها أنا اليوم آثرت البقاء في وطني والانخراط بمسيرة الإصلاح والتحديث التي أرادها سيدنا عنوانًا للمئوية الثانية وفضّلت مشقة ذلك على العودة للغربة.
تغمرني اليوم مشاعر العزّة والافتخار؛ لأنك في ال ٢٥ عامًا التي مضت يا سيدي ومولاي قد كسبت احترام العالم أجمع وحب شعبك.
في خمسة وعشرين عامًا مضت كنت ولا زلت مدرسة في الحكم والحكمة والقومية والبذل للأردن وفلسطين، وتوضيح صورة الإسلام الحقيقي في كل المحافل الدولية، دين وسطية واعتدال وتسامح، حملت رسالة الأردن ورؤيته لقضايا المنطقة التي تثبت صوابيتها يومًا بعد آخر إلى العالم أجمع فكسبت الاحترام في كل مكان وزمان وقاتلت أحيانًا وحيدًا بشرف وشجاعة، ووقفت في وجه مشاريع تُرسم للمنطقة.
تعاطيت يا سيدي مع ما جرى في الربيع العربي بتسامح الهاشميين المعهود، والاستماع لنبض الشعب كان الخيار الذي هو عنوان الهاشميين، والتواصل معه والاستجابة لتطلعاته وهمومه هو ديدنك، في حين كان بعض الحكام يستستهلون إراقة دماء شعوبها.
قدمت وعملت لنا الكثير يا سيدي في ال ٢٥ عامًا الماضية، وقد أعياك الواقع والمتآمرون على هذا البلد حتى رأينا ملامحك قد تغيرت في الآونة الأخيرة، وكأن الإعياء والتعب والعمر يظهران في وجهك، كل ذلك مقترن بالهيبة والوقار .
أطال الله بعمرك يا سيدي وأدامك فوق رؤوسنا وعضيدك سيدي الحسين ولي عهدك الأمين .
يوبيل فضي يا "سيدنا " مليء بالإنجازات رغم التحديات وإن شاء الله إلى يوبيل ذهبي نرى به أردننا خلال ال ٢٥ سنة القادمة مزدهرًا وفي مقدمة الأمم .
إننا يا "سيدنا" نسير خلفك وثوابتنا الله الملك الوطن، نهنىء أنفسنا بيوبيلك الفضي وإلى يوبيل آخر ذهبيًا بعزيمة وثبات، نحو مملكة أردنية هاشمية ديمقراطية تعددية معتمدة على الذات قوية سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا ومؤسسيًّا، وعدا ذلك كله قابل للتطوير والتحديث بأيدي وعقول النشميات والنشامى أبناء شعبك الوفي .
وإننا على يقين كمواطنين سوف نرى قبل يوبيلك الذهبي فلسطين محررة بنفسك ونفس الأحرار .
حمى الله الأردن وطنًا حرًّا سيدًّا، وحمى شعبك العظيم وسياجنا قواتنا المسلحة في ظل قيادتنا الهاشمية المظفرة.