سببان مفصليان وملحّان يجب أن يدفعا الأردن إلى الاشتباك بالقوة الكافية مع مخطط تصفية وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، وهما:
الأول: أن الأردن معنيٌّ تماماً بإنفاذ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 القاضي بـ"العودة والتعويض" لمن هجروا من فلسطين، فعلى أراضيه ثاني أكبر تواجد للاجئين بعد قطاع غزة.
و"العودة والتعويض" من قضايا الحل النهائي المفترض أنها حسمت مع إقامة الدولة الفلسطينية بعد خمس سنوات من توقيع اتفاقية أوسلو، لكن "إسرائيل" لم تسمح بإقامة الدولة، وبالأساس لم تناقش أياًّ من قضايا الحل النهائي.
السبب الآخر: أن "الأونروا" تتحمل عبء الإنفاق على التعليم والصحة لمئات آلاف اللاجئين في الأردن، وتوفر التعليم الابتدائي لنحو 100 ألف طالب في 161 مدرسة، ولديها 25 مركزاً صحياً، وتقدم مساعدات نقدية لنحو 60 ألف لاجىء، فضلاً عن 6 آلاف موظف يعملون في مؤسساتها.
ولنا أن نتخيل حجم الإنفاق الذي قد تضطر الدولة الأردنية، في ظل ظروفها الاقتصادية الصعبة، أن تقدمه في مجالي التعليم والصحة فقط في عشرة مخيمات تعترف بها "الأونروا" من أصل 13 مخيماً مقاماً على الأرض الأردنية.
هذان سببان كافيان ليكونا المحرك الأساسي لتبني الأردن استراتيجية اشتباك مع قرار 18 دولة تعليق التمويل، منها دول تعد ممولاً رئيسياً لـ"الأونروا"، وذلك إما لتعدل هذه الدول عن قرارها أو تأمين تمويلاً بديلاً من دول أخرى.
والأردن، وأظنه كذلك، يعي أن رأس وكالة "الأونروا" مطلوب "إسرائيلياً"، لما للوكالة من رمزية سياسية تديم قضية اللاجئين حية فاعلة والقضية الفلسطينية برمّتها في المحصّلة.
ولما للوكالة أيضاً من رمزية في سياق الشرعية الدولية بوصفها أنشئت بعد النكبة لإغاثة اللاجئين حتى إنفاذ "العودة التعويض" سنداً للقرار الأممي 194.
ولأن "إسرائيل" ليس لديها أدنى نوايا لإعادة اللاجئين إلى فلسطين وتريد توطينهم في بلاد اللجوء؛ فهي استهدفت الوكالة، وسعت لتصفيتها منذ سنوات طويلة.
وأول محاولات التصفية الجدية كانت في عهد الرئيس الأميركي الجمهوري السابق والمرشح الأوفر حظا للعودة لرئاسة أميركا دونالد ترمب، عندما علّق تمويل بلاده لـ"الأونروا" إلى أن جاء الرئيس الحالي جو بايدن وأعاد التمويل ليعود ويعلقه مرة أخرى.
وبدون أن تقدم "إسرائيل" دليلاً حقيقياً على مزاعمها واتهاماتها بمشاركة موظفين في الوكالة بـ"طوفان الأقصى" علقت أميركا تمويلها وشكلت قاطرة جرت خلفها نحو 17 دولة أخرى اتخذت نفس القرار.
هذا الانحياز الصارخ من قبل الولابات المتحدة ومن التحق بركبها من الدول الغربية ليس جديداً ولا مستغرباً، التي لم يرفّ لأيٍّ منها جفن حيال جرائم إسرائيل ضد المنظمة الأممية التي استشهد من موظفيها 150 موظفاً ودمر الدعوان الصهيوني العشرات من مبانيها ومدارسها ومراكزها الصحية والخدمية مع أنها منظمة تابعة للأمم المتحدة ويُفترض أنها تتمتع بحماية دولية.
وواضحً تماماً أن الولايات المتحدة تشارك الكيان الصهيوني في الرغبة الشديدة بإلغاء هذه المنظمة الدولية التي تشكل عائقا أمام الاستراتيجية الصهيو أميركية بتصفية القضية الفلسطينية وشطبها من بوابة التطبيع مع المحيط العربي بعيداً عن تنفيذ حل الدولتين القاضي بإقامة دولة فلسطينية مستقلة.
واليوم ينحو النقاش داخل "إسرائيل" ومع الإدارة الأميركية إلى خلق كيانات بديلة لـ"الأونروا" لتقوم بما تقوم به في قطاع غزة، المهم شطب هذه الوكالة وإخراجها مع دلالاتها السياسية من دائرة الفعل.
ولا يستبعد، للتخفيف من ردود الفعل والأعباء المالية على دول اللجوء في الأردن وسوريا ولبنان والضفة الغربية وحتى قطاع غزة، أن تقوم الدول التي علقت تمويلها للوكالة بتوجيه هذا التمويل للدول نفسها لإدامة الخدمات للاجئين.
وهذا بكل الأحوال، إن تم، سيكون مؤقتا وربما أيضا مشروطا بالتوطين، لأن الهدف النهائي هو شطب وتصفية قضية اللاجئين بتوطينهم في بلاد اللجوء، في سياق تصفية كل قضايا الحل النهائي العالقة.
إن الأردن، المستهدف كساحة حل نهائي للقضية الفلسطينية أكثر من غيره، يجب أن يعنيه التصدي لتصفية وكالة "الأونروا" لأنه من بين أكثر من يفهم ويعي دلالات إخراج الوكالة من الخدمة وشطب رمزيتها.
ومطلوب من الأردن اليوم حملة منسقة ومحكمة ومتدحرجة لإنقاذ الوكالة من التصفية، يشتبك فيها مع الدول التي علقت تمويلها أو تلك التي قد تلحق بها، حتى لا يجد نفسه أمام مخاطر تصفية قضية اللاجئين، وكذلك الأضطرار لملء فراغ "الأونروا".. ولهذا تداعياته وأكلافه الكبيرة على غير صعيد.