مدار الساعة - إن الفقه في أسماء الله الحسنى باب شريف من العلم، بل هو الفقه الأكبر، وإن معرفة الله والعلم به تدعو إلى محبته وتعظيمه وإجلاله، وخشيته وخوفه ورجائه، وإخلاص العمل له، وكلَّما قَوِيَتْ هذه المعرفةُ في قلب العبد عَظُمَ إقبالُه على الله، واستسلامُه لشرعه، ولزومه لأمره، وبُعْده عن نواهيه، ومن تلك الأسماء الحسنى الوراد ذكرُها في كتاب الله "الفتَّاح"، وقد ورَد ذكرُه في آيتينِ من كتاب الله في قوله -تعالى-: (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ)[سَبَأٍ: 26]، وقوله -تعالى-: ﴿وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾[الْأَعْرَافِ: 89].
وقد تكلَّم العلماءُ في معنى اسم الفتَّاح -جل في علاه-، قال ابن القيم -رحمه الله-: "للفتَّاح معنيانِ؛ الأول: يرجع إلى معنى الحُكْم الذي يفتح بين عباده، ويحكم بينَهم بشرعه، ويحكم بينَهم بإثابة الطائعينَ وعقوبة العاصينَ في الدنيا والآخرة، المعنى الثاني: فَتْحُه لعبادِه جميعَ أبواب الخيرات، قال تعالى: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا...﴾الآيةَ [فَاطِرٍ: 2]، يفتح لعباده منافعَ الدنيا والدين، فيفتح لمن اختصَّهم بلُطْفِه وعنايتِه أقفالَ القلوب، ويدرُّ عليها من المعارف الربانية والحقائق الإيمانية ما يُصلح أحوالَها، وتستقيم به على الصراطُ المستقيمُ، وأخصُّ من ذلك أنه يفتح لأرباب محبته والإقبال عليه علومًا ربانيةً، وأحوالًا روحانيةً، وأنوارًا ساطعةً، وفهومًا وأذواقًا صادقةً، ويفتح أيضًا لعباده أبواب الأرزاق، وطُرُقَ الأسباب، ويهيِّئ للمتقين من الأرزاق وأسبابها ما لا يحتسبون، ويعطي المتوكِّلينَ فوق ما يطلبون ويؤمِّلون، وييسِّر لهم الأمورَ العسيرةَ، ويفتح لهم الأبواب المغلقة.
إن إيمان العبد بأن ربه -سبحانه- هو الفتَّاح يستوجب من العبد حُسْنَ توجُّه إلى الله وحدَه؛ بأن يفتح له أبوابَ الهداية وأبوابَ الرزق وأبوابَ الرحمة، وأن يفتح على قلبه بشرح صدره للخير، قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾[الزُّمَرِ: 22]، وهذا الفتح والشرح ليس له حدٌّ، وقد أخَذ كلُّ مؤمنٍ منه بحظٍّ، ولم يخيِّب اللهُ منه سوى الكافرين.
بعض معاني اسم الله الفتاح
ما أجملَ أن تتعرَّف على اسم الله الفتَّاح، وتتدبَّر معانيه، وتدعوه به؛ فهو الذي يستجيب دعاءَكَ، ويحقِّق لكَ مرادَكَ ورجاءكَ، إذا آمنتَ أنَّ اللهَ هو الفتَّاح، هو الحَكَم، هو الذي يرفع ويخفض، هو الذي يكشف الحقائقَ، هو الذي يُجَلِّي الأمورَ، هو الذي يُزيل الالتباسَ، فلا تقلق مهما أصابكَ، ومتى جُهِلَ عليك وأُسِيءَ إليكَ فلا تَخَفْ ولا تحزن، فالله الفتَّاح ناصِرُكَ ومؤيدُكَ، إذا استقرَّ في نفسِكَ أن الله هو الفتَّاح الذي يفتح لكَ الأبوابَ المغلقةَ، والأمور المستعصيةَ، فلا تغتمَّ، وإذا أُوصِدَتْ أمامكَ أبوابُ الناس، وحِيلَ بينَكَ وبينَ ما تريد من الخير فلا تجزع، بل الجأ إلى الفتاح واهرع إلى الذي بيده مقاليدُ كلِّ شيء، أتدري يا عبدَ اللهِ مَنْ هو الفتَّاحُ؟ إنه الذي يفتح لعباده منافع الدنيا والدين، ويفتح لهم جميعَ أبواب الخيرات، ويفتح للعبد كلَّ ما أُغلق من أبواب بوجهه، نتيجةَ مصائب ومشكلات، ومعضلات وصعوبات، لو استقرَّ هذا المعنى بقلبِكَ، ولو تعبَّدْتَ اللهَ بهذه المعاني لكانت عزيمتُكَ أقوى من غيرِكَ، وهمتُكَ أعلى، ولكنتَ مطمئنًا؛ لأنَّكَ مع الفتَّاح -سبحانه-، وما دمتَ أنكَ تعبد اللهَ الفتاحَ فتذلَّلْ إليه، وانكسِرْ بين يديه، وأنزِلْ حاجتَكَ به، وسَلْهُ قائلًا: يا فتَّاحُ افتح لي أبوابَ رحمتك، يا فتاح افتح لي أبواب رزقِكَ، وكن مناجيًا له، لا يملك تدبيرَ أمري ولا يفرِّج همي إلا أنتَ يا فتاحُ، فافتح لي ما أُغلِقَ، ويسِّر لي ما عَسُرَ، وسهِّل عليَّ ما صَعُبَ، فهو الفتَّاح لِمَا أُغلِقَ، من أبواب هداية ورزق وعلم وتيسير، وَادْعُهُ بإخلاص ويقين وثقة بأنه وحدَه هو الذي يفتح لكَ الرزقَ من حيث لا تحتسب، فلا تلجأ لأحد سواه، ولا تَثِقْ إلا في رحمته وفضله، وعليكَ بقِصَر الأمل، وقَطْع الأمانيِّ، وصَرْف الرجاء إلا فيه سبحانه.
أبواب الفتح كثيرة... فهل من طارق؟
أبواب الفتح كثيرة؛ فكونوا ممَّن يطلبها ممَّن يملكها، فمنها: فتحه -سبحانه- لعباده باب التوبة، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله -عز وجل- يبسُط يدَه بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيءُ الليل، حتى تطلُعَ الشمسُ من مغربها" ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾[الْأَعْرَافِ: 96]، ومنها ما يفتح الله على العبد المؤمِن قبلَ موته بعمل صالح، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أراد اللهُ -عز وجل- بعبد خيرًا عسَلَه. قيل: وما عسله؟ قال: يفتح اللهُ -عز وجل- له عملًا صالحًا قبل موته، ثم يقبضه عليه"رواه أحمد" class="fa fa-plus-square-o text-info" aria-hidden="true">
قال معروف -رحمه الله-: "إذا أراد اللهُ بعبد خيرًا فتَح له بابَ العمل، وأغلَق عليه بابَ الجدل، وإذا أراد بعبدٍ شرًّا أغلَق عليه العملَ، وفتَح عليه بابَ الجدلِ".
لا بدَّ أن نعظِّم اللهَ في نفوسنا، ونعلَم علمَ اليقينِ أن ما يفتحه اللهُ للعبد فلن يمنعَه أحدٌ، وما يُمسِكُه عن العبد فلن يجلبه أحدٌ، ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ﴾[فَاطِرٍ: 2]، فتَح لعباده أبوابَ الرحمة والأرزاق المتنوِّعة، وفتَح لهم خزائن جُودِه وكَرَمِه، فما يأتيهم من مطر أو رزق فلا يقدِر أحدٌ أن يمنعه، وما يُمسِكُ -سبحانه وتعالى- ويمنع فلا يستطيع أحدٌ أن يُرسِلَه، فعندَه الخزائنُ وبيدِه الخيرُ، وحين يمتلئ قلبُ العبد بهذا المعنى يتحوَّل تحوُّلًا كاملًا في تصوُّراته ومشاعره وتقديراته في هذه الحياة، وهذا يُوجِب التعلقَ بالله -تعالى-، والافتقارَ إليه من جميع الوجوه، وألَّا يُدعَى إلا هو، ولا يُخاف ويُرجى إلا هو، فاللهم اجعلنا ممَّن توكَّلْ عليكَ فكفيتَه، واستهداكَ فهديتَه، واستغفركَ فغفرتَ له، واستنصركَ فنصرتَه، ودعاكَ فأجبتَه.
من فُتح له باب خير فليلزمه
تدبَّر قولَه -تعالى-: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ﴾[فَاطِرٍ: 2]، وتذكَّر أنه لا أحدٌ يُمسِكُ رحمةَ الله إذا فتَحَها عليكَ، ولا يدفعها ويمنعها إذا أرسَلَها لكَ، وادعُ اللهَ بأسمائه الحسنى، ومنها الفتَّاح، فلن يُوصَد بوجهك بابٌ -بإذن الله-، واجعل ثقتَكَ فيما عند الله، ولا عليكَ في تقدير الناس وموازينهم؛ فالناس إذا أصاب العبدَ داءٌ شديدٌ قالوا له: "إن هذا المرض سيقتلُكَ، ولا أملَ لكَ في الشفاء"، وإذا تعسَّر عليه بابُ الرزق قالوا: "لا تُحَاوِلْ، ولن تُفلِحْ فلا تَتْعَبْ"، لكن مَنْ يحول بين العبد ورحمة ربه، فالشفاء بيد الله، فكم من مصاب كاد أن يهلك فجاءه الفرجُ من الله، فعُوفِيَ وشُفِيَ كأن لم يكن به بأس، وكم من ساعٍ في طلب الرزق يأخذ بالأسباب فيفتح الله عليه، ويُدِرُّ عليه الرزقَ، ويصبُّ عليه الخيرَ صبًّا، بعد أن كان مُعدَمًا مفتَقِرًا، والناس لن يمنعوا خيرًا أدار اللهُ أن ينالَكَ، فعَلِّقْ قلبكَ بالله الفتاح، فهو الذي ييسِّر أمركَ، ويقضي حاجتَكَ، ويكفيك همَّكَ، ويأتيك بالخير والفرج من حيث لا تدري، وتدبيرُه فوقَ كل تدبير، وقدرتُه لا حدَّ لها، وهو الذي يقول للشيء كن فيكون، وخزائنه ملأى، والرزق بيده -سبحانه-، وهو واسع العطايا، ومانِح الهبات، وسابِغ النِّعم، وتذكَّر وصيةَ النبي -صلى الله عليه وسلم- لذلك الرجل الذي دعاه فيها إلى تعليق قلبه بالله وحدَه واليأس تمامًا ممَّا في أيدي الناس، فقال له: "وَأَجْمِعِ اليأسَ ممَّا في أيدي الناس"؛ أي: أجمع قلبَكَ واعزم وصمِّم في فؤادِكَ على اليأس من كل شيء في يد الناس، فلا ترجوه من جهتهم وأن تيأسَ من كل أحد إلا من الله، فتقطع الرجاءَ من كل الناس، ويكون رجاؤُكَ بالله وحدَه، فأعظمُ الناسِ خذلانًا مَنْ تعلَّق بغير الله.
فلا تغفل عن هذه المعاني العظيمة دائمًا، واستشعِرْ ذلك عند الدخول والخروج من المسجد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إذا دخَل أحدُكم المسجدَ فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك".
فالرحمة والفضل والخير كلُّه بيد الله، يفتح به على مَنْ يشاء، وييسِّره لمن يشاء، وكل ما ذُكِرَ آنفًا هو شيء من آثار اسمه الفتاح ومقتضياته، وهو -سبحانه- الذي ينصُر الحقَّ وأهلَه، ويُذِلُّ الباطلَ وأهلَه، ويُوقِع لهم العقوباتِ.
ومما يجدُر ذكرُه من معاني الفتح على العباد أن الله يفتح على مَنْ يشاء من أبواب الطاعات والقُرُبات، على تنوُّعِها وألوانها وصنوفها، فمن الناس مَنْ يُفتَح عليه في تلاوة القرآن وتدبره، ومنهم مَنْ يُفتَح عليه في الصلاة والإكثار منها، ومنهم مَنْ يُفتَح له في الدعاء، ومنهم مَنْ يُفتَح له في الصيام، ومنهم مَنْ يُفتَح له في صلة الأرحام، ومنهم مَنْ يُفتَح له في مساعَدة المحتاجينَ وإغاثة الملهوفينَ، وتفريج كُرُبات المكروبينَ، ومنهم مَنْ يُفتَح عليه في باب الاحتساب، فيأمُر بالمعروف وينهى عن المنكر، ومنهم مَنْ يُفتَح عليه في أبواب الشفاعة والإصلاح بين الناس، ومنهم مَنْ يُفتَح له في باب العلم والمعرفة، وهكذا...
فمتى فُتِحَ لك يا عبدَ اللهِ بابٌ من أبواب الخير، ورأيتَ لذلك انشراحًا في صدرك، ورغبةً فيه فَازْدَدْ منه، وانتهز الفرصةَ، قال حكيم بن عمير -رحمه الله-: "مَنْ فُتِحَ له بابُ خير فلينتهزه؛ فإنه لا يدري متى يُغلَق عنه".