ما شهدناه في بلدنا، على مدى الأشهر الثلاثة الماضية، من أفعال وردود أفعال، لا يمكن فهمه إلا في سياق واحد، وهو «الانفعال «، صحيح، يبدو ذلك مشروعا في ظل مناخات الحرب على غزة، وما ولّدته من صدمة لنا وللعالم، ولدى الكثيرين منا ما يستدعي ذلك، وما يبرر أيضا، لكن السؤال: أليس من الضروري، الآن، أن نخرج من حالة «الانفعال» إلى الهدوء والتوازن، وأن نفكر بمنطق من يريد أن يبحث عن إجابات في الواقع السياسي القائم، لا في عوالم التخيلات والرغبات، ثم في الإطار الاستراتيجي الذي يُفترض أننا اكتشفنا بعض خيوطه في هذه الحرب، كما يُفترض أن نتصرف ضمن ما يطرحه من خطط وسيناريوهات، وما يتضمنه من تحديات وأخطار، وفق معادلة الحفاظ على مصالحنا العليا، وأمننا الوطني؟
هذا السؤال مُوجّه، تحديدا، للنخب السياسية، سواء أكانت في الشارع أو في مواقع المسؤولية، لأنني أفهم، تماما، وأقدر عاليا، الانفعالات الوطنية الصادقة التي يعبر عنها الأردنيون، وهم يتابعون فصول «النكبة»، وصور البطولة، وقصص الصمود، بموازاة بشاعة الإبادة والتطهير العرقي، وهمج المحتل، وخذلان العالم لغزة وأهلها الصابرين.
سأتجاوز الرد عن بعض الذين ما زالوا يرون في هذا «الانفعال» فرصة لتسجيل المزيد من الأهداف، في مبارياتهم غير الودية على ملاعبنا، أو الآخرين الذين يصبون الزيت على نيران الشارع، والمزاج العام المضطرب، أصلا، بقصد المزايدة وانتزاع إعجاب الجمهور، أو توظيف دماء الشهداء للتطهر من أخطائهم؛ هؤلاء لا يستحقون الرد، لأننا جربناهم في كل أزماتنا، ولم تتغير أدوارهم أو مواقفهم.
إذا اتفقنا على أن الخروج من حالة «الانفعال»، ومن محاولات توظيفه والاستغراق فيه، أصبح واجبا وضرورة، فإن بناء حالة جديدة من التعقل والتوازن وإدارة الحدث بهدوء، ووفق حسابات تصب في مصالح الدولة الأردنية، وتدعم إخواننا في غزة، يحتاج إلى (خطوة تنظيم)، استدعاء هذا المصطلح من ميادين التدريب العسكري إلى ميدان العمل السياسي مقصود بالطبع، لكن الأهم من ذلك هو توقيت استدعائه الآن، وفي الأفق محاولات لترتيب الأدوار و تقسيم الأثمان السياسية، وإشهار المحاسبات والمراجعات على منصة ما حدث في غزة، تبعا للأوزان والمواقف، والقدرة على الدخول في المعركة السياسية القادمة.
في سياق (خطوة تنظيم) أشير إلى ثلاث مسارات، الأول : هذه الحرب ستشكل تحولا كبيرا في المنطقة، ولا بد أن نتعامل معها بما يتناسب مع ذلك، صحيح لسنا طرفا مباشرا فيها، ولا يجوز أن نتقمص أدوار غيرنا، لكن نتائجها ستشملنا، وهذا يستدعي إعادة حسابات كلفة المواقف، والتدقيق في صدقية التحالفات والتفاهمات، وجدوى وطبيعة العروض السياسية، والأشخاص أو الأطراف التي تقف وراءها، سواء أكانت شقيقة أم صديقة.
المسار الثاني : دراسة حالة الجبهة الداخلية، وإعادة ترسيم العلاقة بين إدارات الدولة والمجتمع، في إطار مقاربات تتناسب مع خطورة المرحلة القادمة؛ انسجام المواقف وتوزيع الأدوار مهم، لكن الأهم منه هو تمكين مؤسسات الدولة من القيام بواجباتها، وضبط حركة الشارع على إيقاع المصالح العليا للدولة، ثم الانتقال، تدريجيا، من إطار التكتيك السياسي إلى الاستراتيجية، سواء فيما يتعلق بالداخل، أو بالعلاقة مع الخارج، على أن يفرز ذلك توافقات وطنية تستند إلى الاعتماد على الذات، و بإجماع الأغلبية.
المسار الثالث : هذه الحرب ستعيد إنتاج أطراف جديدة في المعادلة الفلسطينية والعربية والإقليمية، مهم أن نعرف هذه الأطراف، وندقق في اختياراتنا، ومهم، أيضا، أن نتعامل مع «المركز الأمريكي» الذي يحركها بحسابات ما بعد الانتخابات، لا حسابات ساعة «بايدن» التي يبدو أنها ستدور في الفراغ حتى نهاية العام الحالي على الأقل، (خطوة تنظيم) في سياق هذه المعادلات التي يجري تصميمها، الآن، لما بعد الحرب، تبدو ضرورية، لأن أي استعجال أو انفعال لن يكون في مصلحتنا، وفهمكم كفاية.