رفعت دولة جنوب أفريقيا قضية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية بتهمة خرق معاهدة منع الإبادة الجماعية لعام 1948 ما يعد خرقا للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني. المحاكمة مهمة قانونيا وسياسيا، وقد يترتب عليها تعويضات وإجراءات، ولكنها تحتاج لمصادقات من الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وهذا لمن يتابع القانون الدولي ويدرسه يدرك صعوبة تطبيق قراراته، نظرا للضعف في تنفيذها تاريخيا. القانون الدولي يختلف تماما عن القانون المحلي في الدول الذي تقف خلفه قوة إنفاذ بعكس الدولي التي حتى وإن صدرت قرارات فإن التنفيذ عادة يترك للدول وحسابات المصالح فيها. يضاف لذلك صعوبة الحصول على الإثباتات الميدانية لأن جلها معلومات بيد إسرائيل، وتصريحات المنظمات المحلية والدولية حول الإبادة الجماعية لن تكون كافية لوحدها،
لذلك لا بد من لجان دولية لتقصّي الحقائق ميدانيا وجمع أدلة الإدانة. وبالرغم من ذلك فإن مجرد صدور القرار حتى وإن عانى من ضعف التطبيق، يبقى أمرا مهما سياسيا وقانونيا وسيضع إسرائيل في موضع معقد دوليا وقانونيا، ويخسرها كثيرا من الدعم الدولي.
ما هو أهم من البعد القانوني والسياسي للمحاكمة، البعد الرمزي والإعلامي ومعركة الانطباع. رفع دولة جنوب أفريقيا للدعوى بحد ذاته يحمل رمزية كبيرة، فهي الدولة التي عانت الأمرّين تاريخيا من نظام الفصل العنصري الأبارتهايد، إلى أن حسم ذلك بعد أن تحولت جنوب أفريقيا لدولة ديمقراطية تحكم فيها الأغلبية الأقلية، واستطاع المواطنون الأصليون ذوو البشرة السوداء أن يحصلوا على حقوقهم وكرامتهم الوطنية. أن تتهم جنوب أفريقيا إسرائيل بالإبادة الجماعية أمر في غاية الرمزية السياسية له أصداء دولية واسعة سواء نجحت القضية أم لم تنجح. البعد الإعلامي والانطباعي مهم أيضا، فإسرائيل بمجرد وقوفها مدافعة عن نفسها أمام تهم إبادة جماعية تخسر صورتها أمام العالم التي اعتاشت عليها لعقود طويلة من الزمن، في أنها دولة مستضعفة ومظلومة وأن مواطنيها المضطهدين في أوروبا يحق لهم العيش بسلام وأمن. هذه الصورة عن إسرائيل تتغير بتسارع كبير منذ الحرب في غزة وما قبلها من أحداث متكررة في القدس واجهها الفلسطينيون بسلاح الانطباع والمقاومة السلمية الذكية. إسرائيل الآن دولة جدلية على المستوى الدولي، متهمة وتشوب حولها تهم خطيرة تمس منظومة الأمن الإنساني الدولي، وهذا يعني الكثير لمن يدعمون إسرائيل دوليا، وأيضا لكثير من سكانها الذين تتنامى أعداد الذين يدركون منهم ظلم إسرائيل للفلسطينيين.
لا مفر ولا حل ولا سلام بدون أن يعي اليمين الإسرائيلي ومن يدعمه دوليا أن الشعب الفلسطيني يستحق العيش بكرامة وحرية، وأن يحصل على دولته التي ستكون ضمانة لأمنه وازدهاره، وأن الأمن لا يأتي من الجيوش القوية والدفاعات الحصينة، بل من إعطاء الشعوب حقوقها وحريتها. ما يحدث في لاهاي دليل قاطع أن إسرائيل في حالة خسران سياسي وانطباعي، وأن قوة الحق التي يستند إليها الشعب الفلسطيني ستنتصر ولو بعد حين.