منذ أيام وأنا أعيد مشاهدة فيديو الشهيد (تيسير أبو طعيمة), الذي أصر أن يلقى وجه ربه ساجدا بعد استهدافه من قبل طائرة إسرائيلية..
هذا المشهد وحده يكفي لو قدم في محكمة جرائم الحرب, أن يدين إسرائيل وأن يدين ما يسمى بالعالم الحر وأن يدين الكهرباء التي قطعت عن غزة, وأن يدين الماء الذي احتاجه الأطفال هناك ولم يحضر... والله لو أن في هذه الدنيا عدالة لعقدت محاكمة للماء وحاكمت الكهرباء.. وحاكمت الهواء الذي جاء من البحر باردا, وكان ثقيلا على طفلة ولدت للتو.. وتسبب لها بالمغص.
أخي الشهيد تيسير:
أنت لست من زمننا, أنت من زمن (أبو ذر الغفاري).. أو من زمن المتنبي, لقد قال المتنبي في وصف فروسيته: (الخيل والليل والبيداء تعرفني.. والسيف والرمح والقرطاس والقلم) صدقني يا ابن ديني ودمي.. لو أن المتنبي عاش زمنك لشطب هذا البيت من قاموسه تماما.. لأن الشعر كله لو اجتمع في وصف المشهد فلن يصل ببلاغته وصوره وعذوبة ألفاظه حد انحناء قدمك اليمنى وأنت تسجد لله.. شاكرا على نعمة الشهادة, وتقاتل دفاعا عن الدين والضمير والعروبة.
أخي تيسير أبو طعيمة:
لو أن العالم فيه عدالة.. لأقمنا نصبا في المكان الذي استشهدت فيه, يخلد تلك الواقعة.. وحين نزورك لن نضع الورد, بل سنجرح الكف اليمنى ونغمسها بالرصيف الذي سجدت عليه.. عل الدم في عروقنا يتطهر بشهادتك العظيمة.. وسنجعل طلاب المدارس في عواصمنا العربية يزورون المكان, كي يتعلموا معنى الوطن.. كي يعرفوا معنى العقيدة والإيمان وكي يدركوا أنك في الرمق الأخير من العمر وحين قبل جبينك تراب غزة.. ارتفع البحر وارتفع الرمل وارتفع النخل.. والطيار الذي يحلق فوقك سقط في الدرك الأسفل... أي شعب هذا الذي حين يسجد لله.. تتمنى الغيمات لو أنها السجادة التي توضع تحت جبينه.
أخي الشهيد المطهر:
أنا لا أعرف ماذا شاهدت في اللحظة الأخيرة من عمرك العظيم... أظنك شاهدت فلسطين حرة, وشاهدت باب الجنة يفتح, وربما جاءت الملائكة تزفك إلى عليين.. ربما أيضا طافت بالمكان رائحة المسك والعنبر, ربما شاهدت ابتسامة من طفل سبقك إلى الشهادة ربما اقترب منك وقبل وجهك الباسم.. واصطحب روحك معه إلى فوق.. ربما سمعت (زغرودة) فرح من سيدة احتفت بشهادتك, ربما شاهدت الأطفال الشهداء كلهم يضحكون في وجهك.. ويأخذونك معهم, كي تعلمهم أصول التجويد.. وكي تتجول معهم في أزقة المخيمات... وكي تمر من باب المسجد الذي كنت تخطب فيه الجمعة, وبعد انتهاء الخطبة تعقد حلقة يجتمع فيها الصبية وتعلمهم تفسير القران والحب, تعلمهم.. أن الوضوء بتراب غزة واجب على كل من قرر أن يذوب في حبها, وتعلمهم أيضا أن منبت الرجولة هنا.. وأن منبت البندقية هنا وأن الحياة استوطنت هنا بالرغم من حجم الموت.
أخي تيسير ..
قل لي ماذا شاهدت في لحظتك الأخيرة؟.. حتى تسجد هذه السجدة, وتجعلها اخر شيء تفعله قبل المنازلة العظيمة التي خضتها مع الإجرام... هل جاء ملاك من الجنة, وبكفه الماء ومده إلى فمك الأغر كي ترتوي.. أم أنه مسح بكفه على جبينك وجعلك تستريح بين زنديه ثم طار بك إلى عليين... أنا لا أعرف, ولكن ما أعرفه أن زمنا سيأتي وأنا متأكد من هذا الزمن.. ليست وحدها إسرائيل من ستحاكم.. الكل سيحاكم, الورد سيحاكم إن لم ينبت على قبور الشهداء.. والماء سيحاكم إن لم يرو عطش النازحين والمكلومين... حتى البحر يا تيسير صدقني أنه سيحاكم.. وسيقدم إفادته, وسنسأله كيف سمح لنفسه بأن يحمل قوارب الظلم والعدوان والهمجية... والنار ستحاكم يا تيسير.. سنسألها هل كانت بردا وسلاما على أهل غزة أم لا؟... والأمصال ستحاكم وسنسألها عن أوجاع لجرحى وكيف لم تدمل تلك الجراح..
كل ذلك الدم يا تيسير الذي سكب, صدقني أنه سيعقد من نفسه محكمة.. ويحاكم هذا العالم الضال والظلم, أما أنت... فستبقى أحلى الأغنيات وأجمل نسمة سكرى مرت على بلاد العرب.. ستبقى سارية الإعلام الحرة, وصورتك ستعلق في المقاهي وفي المنازل وعلى زجاج السيارات... ستبقى تيسير الذي ودع الحياة بسجدة... هي أكبر من كل المعارك والبطولات والتاريخ والمستقبل.