تعتبر جمهورية رواندا من الدول الإفريقية الصغيرة نسبيّاً، وتتميز جغرافياً في كونها ضمن نطاق الأخدود الإفريقي العظيم، أما على مستوى تاريخها السياسي الحديث فقد شكلت مأساة الحرب الأهلية عام 1994 تحولاً جذريّاً في مسألة بقائها كدولة، إلا أنها استطاعت من تجاوز تبعات هذه المرحلة الدموية والاستدلال على جادة الصواب الوطنية لتنتج حركة نهوض ساهمت بتحقيق تنمية شاملة في مختلف قطاعات الدولة، غير أن رواندا لا تتمتع بثقل سياسي مؤثر على مستوى القارة السمراء أو الساحة الدوليّة، بالرغم من كونها عضواً في الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة والكومنولث والمنظمة الدوليّة للناطقين بالفرنسيّة و مجموعة شرق افريقيا.
وبالنظر إلى توقيت الزيارة الملكية إلى رواندا والربط بما يجري في قطاع غزة؛ يستنتج بأن الزيارة لا تنحصر ضمن العلاقات الثنائية فحسب، فالدبلوماسية الأردنية بقيادة الملك عبدالله الثاني تفرغت بشكل تام من أجل الضغط لإنهاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وافشال المخطط التهجيري للفلسطينيين.
فمن المرجح بأن الأردن تحرك بشكل استباقي بعد تسرب تقارير صحفية إسرائيلية تشير إلى قيام تل أبيب بعرض مغريات ضخمة على رواندا من أجل استقبال فلسطينيين من قطاع غزة وذلك ضمن خطتها للتهجير كما تصفها " بالطوعية"، هذه الخطة تقودها وزارة الخارجية الإسرائيلية وجهاز الموساد، حيث جرى اتفاق أساسي بين جمهورية رواندا وإسرائيل لمواصلة المباحثات .
تستند الخطة الإسرائيلية على توفير الظروف القسرية في قطاع غزة للوصول إلى هجرة طوعية لسكانه مع تقديم دعم مالي سخي للمهاجرين وذلك من خلال جعل مدينة غزة غير قابلة للحياة وتعميق الأزمة الانسانية، بالتزامن مع تبني " بروباغندا" ترسخ مواجهة " إلقاء اللوم " من طرف سكان القطاع اتجاه حركة حماس.
لم يكن ذهاب إسرائيل الى رواندا من أجل تنفيذ مخططها التهجيري من باب الصدفة، فمع نهاية عام 2023 وقّعت المملكة المتحدة مع جمهورية رواندا اتفاقية ترحيل المهاجرين في بريطانيا بعدما أقر مجلس العموم البريطاني مشروع قانون يسمح بترحيل المهاجرين غير النظاميين إلى رواندا ، كذلك الأمر فقد استقبلت رواندا في عام 2019 عدد كبير من اللاجئين الأفارقة في ليبيا بموجب اتفاق مع المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، ليتم بعد ذلك نقل نصفهم إلى دول كندا والسويد والنرويج وبلجيكا وفرنسا .
تلتصق فكرة تهجير الفلسطينيين بالعقل السياسي الصهيوني فتجارب الأعوام 1948-1967 ما تزال ملهمة للحكومات الإسرائيليّة بشكل عام والحكومة اليمينيّة المتطرفة الحالية بشكل خاص،
والتي يتبنى العديد من وزرائها ثنائية التهجير والإبادة الجماعيّة .
وفي ذات السياق استطاعت الزيارة الملكية توظيف، وإيصال رسالة سياسيّة وانسانيّة تمثلت بذهاب جلالة الملك عبدالله الثاني لمتحف " كيغالي " للإبادة الجماعيّة الذي يوثق مقتل 800000 ألف انسان رواندي وتهجير ما يزيد عن 2 مليون شخص، حيث قال الملك: "هذا الصرح التذكاري يذكّر العالم بأنّ كل فرد قتل في الإبادة الجماعية في رواندا عالم بأكمله، عائلة فقدت أحد أفرادها ، أم أو أب أو طفل، حلم تلاشى وإمكانيات هائلة اختفت قبل أوانها "، وأضاف الملك في مقاربة بما يحدث في غزة: " أصبح نحو 30 ألفاً في قطاع غزة في عداد الشهداء والمفقودين خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والغالبية العظمى منهم أي حوالي 70% من النساء والأطفال " .
وهنا نجد بأنّ المقاربة الذكية لجلالة الملك عبدالله الثاني تبعث برسالة تخاطب وجدان وذاكرة الروانديين الخاصة بمأساة شعبها والتي أدين مرتكبيها من قبل محكمة العدل الدولية، وتسلط الضوء أيضاً على ما يحدث من إبادة في قطاع غزة، وتذكّر وتضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته الأخلاقية والقانونية بالتزامن مع بدء محكمة العدل الدوليّة بالنظر في الدعوى التي رفعتها دولة جنوب افريقيا بحق إسرائيل بتهمة ارتكاب إبادة جماعية بحق الفلسطنيين في قطاع غزة، والتي سيقدم بها الأردن المطالعات والمرافعات والحجج القانونية اللازمة لإدانة إسرائيل أمام المحكمة الدولية .
وكما هو الواجب التاريخي والمرتكز على المصير المشترك، لا تدخر المملكة الأردنية الهاشمية من جهود دبلوماسية وسياسية وإنسانية واقعية من أجل إيقاف الحرب على قطاع غزة، فالأردن الأكثر فهماً وإدراكاً للمخططات الإسرائيلية في فلسطين.