حربان غير متناظرتين أو غير متكافئتين، سمِّهما ما شئت، وقعتا بين قوى مقاومة و"إسرائيل"، الأولى مع حزب الله عام 2006، والأخرى مع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة العام 2023، وما تزال مستمرة، وهي الأطول.
هاتان الحربان، اللتان تجاوزتا مفاهيم الحروب التقليدية، كشفتا أن بالإمكان الاشتباك مع آلة الحرب الإسرائيلية ودفعها إلى أنماط قتال لن تُحقق فيها انتصاراً حاسماً، كما اعتادت في حروب تقليدية مع العرب.
لذلك؛ "إسرائيل" تفضل الحروب التقليدية دون سواها لتوافرها على: أولاً: قوة نارية تدميرية، وثانياً: تفوق تكنولوجي عسكري، وهذان الأمران يمنحانها الأفضلية ويعززان فرصها لتحقيق حسم كبير في أيّ مواجهة.
إن دراسة المواجهات الإسرائيلية العسكرية مع المقاومة اللبنانية وقطاع غزة وتحليلها تحليلاً دقيقاً يتيح الوصول إلى فهم عميق لشكل تلك المواجهات وطبيعتها، وكيف أن أسلحةً بسيطة وأعدادَ مقاتلين قليلة حالت دون أن تحقق "إسرائيل" انتصاراً عليها.
وفي كل تلك المواجهات لم تحقق "إسرائيل" أيّاً من أهدافها العلنية أو الخفية، واضطرت صاغرة للقبول بوقف إطلاق نار، كما في جنوب ولبنان 2006، وفي أكثر من مواجهة مع غزة التي تغرق الآن في رمالها.
وعاجلاً أم آجلاً سيخضع الاحتلال ويوقف عدوانه على قطاع غزة بدون أي نصر، وسيكتب التاريخ أن آلة حرب إجرامية مدججة بآلاف المقاتلين وأعتى الأسلحة الفتاكة فشلت أمام أسلحة شبه بدائية ومئات المقاتلين الذين كبدوها أكلافاً باهظة وطردوها خارج أرضهم.
هذا يعني أن هزيمة "إسرائيل" ودحرها مسألة ممكنة، وأن قوتها القاهرة والمتفوقة إن لم تكن من الأوهام، فهي بالدليل القاطع تكون مشلولة في الحرب غير التلقيدية.
ما الذي يعنيه ذلك..؟
ذلك يعني أنه وفق منطق الحروب التقليدية، وبمقارنة إمكانات الجيوش العربية مع جيش "إسرائيل" ستميل الكفة للأخيرة لتفوقها في الأسلحة والتكنولوجيا وحجم الإنفاق العسكري، وليس بنوعية المقاتلين.
هذه حقيقة واقعة، لا سبيل لإنكارها أو التعامي عنها، لكنها ليست حقيقة سرمدية، بل قابلة للتغيير والتحايل على الواقع الذي تفرضه بإعادة النظر في العقيدة العسكرية القتالية للجيوش العربية، وتحديداً الأردن ومصر وسوريا ولبنان، أو ما يطلق عليها دول الطوق.
ويمكن للدول العربية، أو في أقله دول الطوق، أن تقوم بأيٍّ من الأمرين التاليين:
أولاً: إعادة هيكلة جيوشها بالكامل وتدريبها وتجهيزها بالأسلحة المناسبة لخوض الحرب غير التقليدية وتوجيه الإنفاق العسكري بهذا الاتجاه.
ثانياً: إبداع نمط جديد هجين يزاوج بين القدرات على الحربين التقليدية وغير التقليدية، أي تقسيم جيشها إلى قسمين أحدهما جاهز لخوض حروب تقليدية والآخر جاهز لخوض حروب غير تقليدية.
وفي أيٍّ من النمطين القتاليين من المؤكد أنه سيتم التحسب لقوة العدو التدميرية، ولإمكانية تنفيذ إنزالات خلفية، واحتلال أراض، بل وربما جره لاحتلالها وإدخاله إلى مستنقع حرب عصابات لن يقوى على الصمود طويلاً أمامها.
إن التغلب على الفارق الكبير في ميزان القوة مع "إسرائيل" لا يكون إلاّ بهذه الطريقة، وبتنويع مصادر الأسلحة، بل والعمل على تصنيعها محليا، وإعداد مسرح العمليات بما يتوافق مع متطلبات الحرب غير التقليدية.
لست خبيراً عسكرياً ولا محللاً استراتيجياً، لكن؛ من ملاحظات الواقع والتدقيق في تفصيله وحيثياته، يمكن لأي مهتم ومتابع أن يلحظ قيمة وأهمية إعادة النظر في العقيدة العسكرية القتالية لتكون أكثر فعالية وأقوى تأثيراً وجدوى وأقل كلفة.
فأنماط الحروب غير التقليدية مع الكيان الإسرائيلي عالية الردع، وكاسرة لمنطق الهيمنة والتفوق الذي ثبت زيفه وعدم صحته، وثبت أن الأمتين العربية والإسلامية خُدعتا لعشرات السنوات بأن "إسرائيل" كيان لا يقهر ولا يقوى أحد على مواجهته، إلى أن جاءت قوى المقاومة لتثبت هشاشة هذا الكيان وتداعيه بصورة لم تكن متخيلة.
"إسرائيل" ليست دولة مستحيلة، مواجهتها وتحطيمها أمر ممكن إن فكرنا وصممنا مقارباتنا العسكرية والسياسية خارج الصندوق للانفكاك من عقدة التفوق الموهوم.