مدار الساعة- "براوناو آم إين"، مدينة صغيرة شمال النمسا لا يتجاوز عدد سكانها 17 ألف ساكن، وهي معروفة بكونها مهد الديكتاتور النازي أدولف هتلر.
إذ وُلد الزعيم النازي أدولف هتلر سنة 1889 في مبنى أصفر وقديم يحمل عنوان 15 ضاحية سالزبورغ، الأمر الذي يجعل منزله في قلب معركة سياسية وثقافية كبيرة تشهدها النمسا، فضلاً عن كونه أصبح مزاراً للعديد من السياح والنازيين الجدد، بحسب صحيفة Sueddeutsche الألمانية.
وعلى مدى سنوات، ظل هذا المبنى خالياً من السكان وتعرض للتآكل بفعل الزمن، ثم أرادت الحكومة النمساوية إدخال تغييرات عليه بعد أن فقد كل ملامحه، فقامت بعرض تعويض على صاحبة المنزل جيرلاند بومر، إلا أن هذه الأخيرة قررت خلال هذا الأسبوع الوقوف ضد مخططات الحكومة ورفض هذا القرار.
وبذلك، عاد المنزل الذي وُلد فيه هتلر ليتصدر عناوين الأخبار في أوروبا، ويطرح أيضاً سؤالاً حساساً: كيف يجب استغلال هذا المكان؟
ويبدو أن المؤرخ والباحث السياسي النمساوي أندرياس مايسلنجر، ومؤسس المركز النمساوي لذكرى الهولوكوست، لديه إجابة واضحة لهذه التساؤلات، إذ يعمل على حل هذه المسألة منذ 15 سنة.
بيت المسؤولية لتحقيق المصالحة
وفي حوار مع صحيفة Sueddeutsche الألمانية، قال مايسلنجر: "يجب ألا يتحول هذا المنزل إلى متحف لتخليد ذكرى هتلر، كما يجب ألا يتحول أيضاً إلى مركز توثيق بهدف خدمة أغراض التيار الاشتراكي".
وأضاف مايسلنجر أنه يريد تشييد مكان البيت "منزل المسؤولية"، وهي فكرة ظهرت سنة 2000 في مدينة براوناو، وحظيت حينها بتأييد غالبية السكان، حيث سيتحول المنزل إلى مزار عالمي يأتي إليه الناس؛ من أجل تحقيق مبدأ التفاهم والمصالحة مع الأطراف المتضررة من النظام النازي.
ويرى مايسلنجر، أنه يجب على كل الشباب من أنحاء العالم كافة أن يفهموا الرسالة التي يجب أن يقدمها هذا المنزل؛ إذ إنه لا بد أن يفكروا في مسؤوليتهم حيال الماضي والحاضر.
علاوةً على ذلك، تحتاج مدينة براوناو إلى دعاية جديدة إيجابية في رأي مايسلنجر، عوضاً عن اشتهارها بكونها مسقط رأس هتلر، وإذا لم يتم تحقيق هذا التغيير فستظل المدينة قِبلة للنازيين الجدد.
من جانبها، قررت وزارة الداخلية النمساوية تغيير ملامح المنزل كلياً، حتى أصبح من غير الممكن التعرف عليه؛ إذ تتبنى الحكومة مقترح لجنة المؤرخين.
وقال مايسلنجر في حواره مع الصحيفة الألمانية: "يمكن تغيير شكل المنزل كلياً، ويمكن حتى تدميره وتسويته بالأرض، ولكن مدينة براوناو ستظل براوناو، وما سيتغير فقط هو الواجهة، وهذا سيكون بمثابة قمع لتاريخ المدينة ولرغبة سكانها".
وأضاف المؤرخ الألماني: "إن بعض سكان براوناو يعتقدون أنه إذا توقفنا عن الحديث حول هتلر فسينسى العالم أن هذا الزعيم النازي وُلد هنا، وهذا اعتقاد ساذج للغاية. كما أنه من دون هذا التاريخ وهذه الرمزية ستكون براوناو مدينة مملة لا تتجاوز اهتماماتها بعض المشاكل التقليدية؛ مثل نزوح الشباب، وانتشار البطالة، وفضلات الكلاب التي تلوث الشارع. ولكن إذا حافظنا على الرمزية التاريخية لهذه المدينة، فإنها ستكون ذات إشعاع عالمي".
في المقابل، يواجه عمدة هذه المدينة الصغيرة صعوبة في استيعاب السياق السياسي الدولي والرمزية الهامة لبراوناو، ولذلك فقد ظلت هذه المشكلة قائمة سنوات طويلة، في حين أراد وزير الداخلية النمساوي، وولفغانغ سوبتكا، هدم المنزل.
ما الذي سيعنيه هدم المنزل؟
ويتساءل المؤرخ الألماني: "هل سيُفهم من ذلك أن أدولف هتلر لا يزال بعد وفاته بـ70 سنة قوياً لدرجة أنهم يسعون لطمس مكان ولادته؟، أو هل تختفي ربما وراء هذا القرار رغبة في محو هذه الولادة من التاريخ؟، ولكن هذا المنزل في النهاية هو مجرد مسكن ظل موجوداً هنا نحو 300 سنة، وولادة هتلر كانت مجرد حدث عابر خلال هذه الفترة الطويلة التي سكنت فيها العديد من العائلات هذا المكان".
على الرغم من ذلك، يقول مايسلنجر إنه يتفهم موقف وزير الداخلية؛ فالمنزل الذي وُلد فيه هتلر يمكن أن يجلب له بعض المشاكل والتعقيدات الأمنية بسبب رمزيّته التاريخية، ولذلك فهو يحاول تجنب المشاكل، ويسعى للتخلص من المسؤولية غير المرغوب فيها المتعلقة بهذا المنزل.
لكنه يرى أنه من خلال قراره هذا يمكن اعتبار أنه ألحق ضرراً كبيراً بمدينة براوناو، ففي كل مرة تنتشر فيها أخبار قرار الهدم عبر العالم، يعود اسم براوناو ضمن عناوين الأخبار ليقترن باسم هتلر، وهذا ضغط لا يمكن تحمّله بالنسبة لهذه المدينة الصغيرة والهادئة، التي تعاني قلقاً كبيراً بسبب هذا الحدث المثير للجدل.
ويوضح المؤرخ الألماني قائلاً: "كما لن يكون بإمكان براوناو صنع تاريخ جديد وتغيير سمعتها في العالم إلا من خلال استغلال أفضل لهذا المنزل، وأنا مقتنع بأن تحويله إلى (منزل المسؤولية) سيكون كفيلاً بتحقيق هذا الهدف، وقد كانت ردود الفعل الأولى حول الفكرة إيجابية جداً".
كيف ينظر سكان براوناو لهذا الماضي؟
وعن رؤية سكان براوناو لهذا الإرث، قال مايسلنجر: "يشعر البراوناويون طبعاً بالانزعاج عندما يأتي الناس لمدينتهم بهدف رؤية منزل هتلر فقط، كما ترتبط بهم سمعة سيئة لدى الناس في باقي أنحاء البلاد ولا أحد يريد تقديم المساعدة للمدينة".
وتساءل مايسلنجر: "ما الذي كان سيحدث لو أن هتلر وُلد مثلاً في مدينة سالزبورغ مسقط رأس الموسيقيّ العبقري موزارت، في حين وُلد هذا الموسيقي في براوناو؟، لا يمكن أن نسمح لحدث كهذا بأن يلطخ صورة المدينة للأبد، لماذا يجب على براوناو دائماً تحمّل وِزر هتلر؟ بالطبع، ستظل هي مسقط رأسه، ولكنها يجب أن تكون معروفة أيضاً بأنها مدينة تشجع الناس على تحمّل المسؤولية حول ما حصل من جرائم وفظاعات في الماضي".
ويبدو أن مخططات وزير الداخلية تم تأجيلها؛ إذ تقدمت مالكة المنزل بدعوى قضائية ضد قرار المصادرة.
فيما أنهى مايسلنجر حواره قائلاً: "ما زلت أثق بأن فكرة إنشاء (منزل المسؤولية) ستحظى بالموافقة. فالدعم لها يزداد يوماً بعد يوم وهذا ينعش آمالي. وفي حال تم إلغاء قرار المصادرة، فإن وزارة الداخلية سترفع يدها عن هذه القضية".