مدار الساعة - فارس بدوي شديد من الصحراء الأردنية يصور نفسه وهو بالحرب شادا على جواده المسرع بيساره،، شاهرا سيفه القاطع بيمينه، منقضا بقوة نحو خصمه... وينقش أدق التفاصيل على حجرة بالصحراء لمعركته، ويوقع عليها إسمه ويتركها لمن بعده... فمن هو؟ وما الذي يريد إيصاله لنا عبر هذه الصورة؟
في زيارة لمراسل "مدار الساعة" لمنزل الجيولوجي البروفيسور محمد الفرجات في العقبة، للإطلاع على مجموعاته القيمة من العينات المعدنية والصخرية والمستحاثات، والتي جمعها خلال عمله الميداني في مختلف أنحاء المملكة، دار الحديث عن صخر جيري بأبعاد 20 سم ب 20 سم، ويحوي نقشا لافتا (كما يظهر بالصورة).
الفرجات يبيّن أن هذا الحجر إهداء تلقاه من صديق له بالجامعة كان قد جمعه من زيارات ميدانية أيضا، ويحتفظ به ضمن العينات.
يقول الفرجات إن هذا الفارس هو ابن الصحراء الأردنية الممتدة؛ الجنوبية والوسطى والشمالية الشرقية، والتي تزخر بتاريخ حضاري غني لحضارات مختلفة سكنتها تمتد إلى عشرات آلاف السنين، والتي تعد موئلا طبيعيا لأشكال كثيرة من التنوع الحيوي من نباتات وأعشاب تتعايش مع الشح المائي وقساوة البادية، لتشكل قاعدة الهرم الغذائي لكثير من الثدييات والزواحف والحشرات والطيور التي تسكن هذا النظام البيئي الرائع في هذه البقعة الجغرافية الجافة.
ويضيف أن سالم سليمان هو ابن هذه البوادي الجميلة الرائعة التي شهدت منذ فجر التاريخ صناعة الخبز (حسب بقايا أثرية أكتشفت فيها قبل سنوات لتنور وبقايا رغيف متفحم)، والتي كانت إضافة إلى أنها ممر تاريخي لطريق القوافل مستقرا في التاريخ القديم والحديث للحضارات والقبائل التي سكنتها، وتعايشت مع ظروفها المناخية الصعبة وشحها المائي، ومارسوا فيها الزراعة وتربية المواشي وصنعوا من مواد الطبيعة أدواتهم لتسهيل حياتهم اليومية، وإتخذوا من طرق الحصاد المائي التقليدية سبلا لجمع مياه الأمطار للشرب والري ومختلف الغايات.
يقول الفرجات: لقد صور لنا "سالم سليمان" الفارس الأردني نفسه وهو على فرسه ويشهر سيفه منقضا على خصمه، ويبدو وحسب طبيعة النقش بأن عمر الصورة التاريخية هذه نحو مئتي عام أو أقل.
وحول تفسير ما جاء فيها والهدف من نقشها، يوضح البروفيسور الفرجات بأن سالم أمامه فارس صنديد آخر منقوش جزء من رسمه على بقايا الحجرة على اليمين، ويظهر سيفه ورأس فرسه وقدمها الأمامية اليمنى، وكلا الفارسين ينقض تجاه الآخر بسرعة قسوى، يعبر عنها ذيل فرس سالم الذي يرتفع للأعلى مع السرعة، وأن الفرس بحالة تستعد فيها للوثب بعنف نحو الخصم المقابل.
ويكمل الفرجات بأن فرس سالم التي يسيطر على عنانها بيساره ويستعد مع وثبتها للإنقضاض على قبيله، بالتأكيد يصدق فيها القول "الفرس من الفارس"،،، وهذا جزء من رسالة سالم لنا، والذي يبدو شابا ويتغنى بفروسيته وسطوته، حيث شهدت البوادي قبل مئات السنين الغزو بين القبائل، وكان فرسان القبيلة بمثابة خط الدفاع وجيشها وسندها.
ويسترسل الفرجات: كما وأن مكونات الرسالة المصورة يمكن أن نروي الكثير عن دلالاتها؛ أما عن تطبيع وساسة الخيول وتدريبها للحرب فهذا أمر معرفي وخبرات منقولة من جيل إلى آخر في البادية، وعن أدوات الحرب وصناعتها كالسيف القاطع بيد سالم فهذا يعني وجود هذه الصناعات وتوطينها في البادية، وعن عنان فرس سالم وطول العنان ومكانه في أعلى رقبة الجواد وأسفل رأسه وأهمية ذلك في الحرب للسيطرة ودقة التوجيه والإنعطاف وأوامر السير والتوقف والسرعة، وعن دقة كتابة الإسم بأحرف جميلة وخط واضح ودلالة ذلك بإقبال الفرسان وأبناء القبائل في البادية على الكتاب (بضم الكاف وتشديد التاء)، وعن دلالات كيفية رفع سالم السيف ووضعه بحالة جاهزية الدوران اللولبي لقطع رأس خصمه وما وراء ذلك من فروسية وبأس ومعرفة بأمور القتال...
يقول البروفيسور الفرجات بأن هذا النقش بمثابة رسالة وصلتنا عبر التاريخ من الفارس الأردني البدوي الصنديد الشهم سالم سليمان، وهي رسالة مصورة وغير تقليدية، مرسومة بالنقش وتعبر بدقة وتفاصيل رائعة عن قصة المكان للصحراء والبادية الأردنية من ماضيها الحديث، مغزاها ومفادها بأن قوتنا في شبابنا وعزمهم وجاهزيتهم، وأن أجدادنا سطروا قصصا وأحداثا للتشبث بهذه الأرض، ونقلوا معرفة وعلوماً دقيقة ومفصلة عبر الأجيال للتعايش مع قساوة الظروف سعيا للبقاء...
الرسالة تقول لنا إن علينا المضي قدما وبكل قوة بما من شأنه حماية هذا البلد والنهوض به وبإنسانه، وأننا جيل نعد موئلا للأجيال القادمة، قد يتحدثون عنا بنفس ما تحدثنا به اليوم عن فارسنا سالم سليمان رحمه الله تعالى.