في العام 1800 انتهى العمل من بناء بيت رئيس الولايات المتحدة الأمريكية في مدينة واشنطن والذي بُني آنذاك من الحجر الكلسي الرمادي، وفي العام 1814 قامت مجموعة من الجيش البريطاني باقتحام مدينة واشنطن وأحرقوا كل شيء فيها بما في ذلك بيت الرئيس الذي لم يبق منه الا جدرانه التي اتشحت باللون الأسود، وكان ذلك رداً على هجوم الولايات المتحدة الأمريكية على كندا كإحدى المستعمرات البريطانية وبهدف الاستيلاء على أراضٍ يمكن معها مساومة بريطانيا لرفع قيودها المفروضة على ارسال البضائع الأمريكية الى فرنسا، والحد كذلك من نفوذها وتدخلاتها على أراضيها، وتم على إثر ذلك طلاء بيت الرئيس الأمريكي باللون الأبيض للتخلص من آثار الحريق، وفي عام 1901 اطلق الرئيس الأمريكي روزفلت مسمى البيت الأبيض على المنزل الذي يشغله أي رئيس للولايات المتحدة الأمريكية.
ورغم هذا اللون الأبيض الناصع لمقر رئيس الولايات المتحدة الأمريكية – والذي لربما أُريد له آنذاك أن يتماهى مع ما أرادت أمريكا أن تظهره للعالم من أنها منارة للحرية والعدالة وحقوق الإنسان- إلا أن واقع سياسات البيت الأبيض ومن خلال من أشغله من الرؤساء وعلى مر السنين تمركزت حول حماية المصالح الأمريكية الاستراتيجية أولا وأخيرا بما يتطلبه ذلك من مد النفوذ والتوسع والاستيلاء على أراضي الغير والتحكم بإرادات الشعوب ومقدراتها ومواردها، وذلك من خلال الأعمال العسكرية المباشرة أو العمليات الاستخباراتية أو تنصيب أنظمة حكم استبدادية تقوم بهذه المهام بالنيابة عنها، أو تدمير وتفكيك الدول التي تعمل خارج نطاق سيطرتها وأوامرها.
والحديث يطول عن أمثلة لهذه الأعمال التوسعية والعدوانية لساكني البيت الأبيض عفوا "البيت الأسود" والتي شملت أمريكا الوسطى مثل نيكارغوا وبنما وهندوراس وكوستاريكا وغواتيمالا والسلفادور، وأمريكا الجنوبية مثل البيرو والأورغواي وكولومبيا وتشيلي والقائمة تطول، وحتى هاييتي والدومنيكان وكوبا في البحر الكاريبي، وكذلك قارة آسيا بوسطها وشرقها وجنوبها وشمالها مثل أفغانستان وفييتنام وكوريا والفلبين والصين واليابان والتي ألقت أمريكا على مدينتين فيها (هيروشيما وناكازاكي) قنابل ذرية في الحرب العالمية الثانية، ولم تنجُ افريقيا من أعمالهم العدوانية، ولنا في الصومال وتقسيم السودان والغارة الجوية على ليبيا في العام 1986 خير أمثلة .
كذلك وبذريعة وجود أسلحة دمار شامل في العراق شكلت أمريكا محورا دوليا بقيادتها لمهاجمته، وبعد هدم كامل بنيته التحتية وتفكيك الدولة والجيش وزرع بذور الفتنة والطائفية وتبديد آثاره وكنوزه التاريخية وموت أعداد لا حصر لها من العراقيين انتهى فريق التفتيش الأمريكي الذي شكل آنذاك الى عدم وجود أسلحة دمار شامل في العراق وهو ما أكده أيضا وزير الخارجية الأمريكي بعد ذلك كولن باول بقوله بأن تبريره الحرب على العراق كان نقطة سوداء في ملفه.
ولم تكتف أمريكا بجميع ما تقدم فقد ساهمت ومن خلال سياساتها وممارساتها في إجهاض ثورات الربيع العربي وبشكل رئيسي من خلال تأجيج الصراعات العرقية والطائفية لتُغرِق البلاد التي حلمت بالحرية والإصلاح في أتون العنف والحروب الأهلية.
وأخيرا شهدنا تورط ساكن "البيت الأسود" المباشر في الحرب على غزة من خلال تزويد الكيان المحتل بالأسلحة والذخائر الأكثر تعقيدا وفتكا والمحرمة دوليا، وإرسال جنود أمريكيين وإيفاد من يشارك في مجلس حرب هذا الكيان لتوجيه المعارك وإبداء الرأي الاستشاري، وتقديم الدعم اللوجيستي والاستخباراتي وكذلك الإعلامي وبترداد أعمى لأكاذيب دولة الاحتلال، بالإضافة الى دعم الحصار الكامل على غزة من قبل الكيان المحتل وحرمان أهلها من الماء والغذاء والدواء والكهرباء، الأمر الذي أدى حتى تاريخه إلى مقتل عشرات الآلاف من المدنيين العزل بمن فيهم الأطفال والنساء وتجويع من بقي منهم على قيد الحياة، وكذلك تدمير البنى التحتية بما فيها المدارس والمستشفيات ودورالعبادة وكل ذلك خلافا للقوانين والاتفاقيات الدولية ومنها اتفاقية جينيف لحماية المدنيين أثناء الحرب.
وأكثر من ذلك فقد مارست أمريكا أكثر من مرة حق النقض في مجلس الأمن وآخر ذلك كان قبل أيام من أجل منع وقف الحرب على غزة حتى تعطي الوقت الكافي لدولة الاحتلال لتنجز مهمتها المطلوبة بالإجهاز على المقاومة وبالتالي تبديد أي فرصة لإقامة دولة فلسطينية وذات سيادة، والقضاء على البنى التحتية في غزة وإبادة أكبر عدد ممكن من أهلها لجعل البقاء فيها مستحيلا بما يخدم مخططات الاحتلال في تهجير من تبقّى منهم قسرا إلى مصر والتلويح بهذا الإجراء الى سكان الضفة الغربية بتهجيرهم الى الأردن.
لم يعد للنواح والعويل والاستنكار أية قيمة أمام هذا القتل الهمجي البربري الذي تشارك فيه الإدارة الأمريكية، فمخالفة القوانين والاتفاقيات الدولية تستوجب المساءلة وإنزال العقاب، وذلك بالتحرك لاتخاذ الإجراءات القانونية لمقاضاة من يشغل منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية حاليا والمسؤولين الكبار معه بتهمة المشاركة والمساهمة في ارتكاب جرائم حرب وعدوان وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية لأهلنا في غزة وأمام المحاكم الدولية المختصة وبغض النظر عن مدى طول وتعقيد مثل هذه الإجراءات، وهو إجراء برسم التنفيذ بمبادرة يقودها مجلس النواب الأردني والنقابات المهنية وعلى رأسها نقابة المحامين وحسب الأصول القانونية، فإذا كان مجلس النواب الأمريكي قد صوّت قبل أيام لصالح فتح تحقيق رسمي لعزل الرئيس الأمريكي الحالي استنادا الى أنشطة ابنه المثيرة للجدل، وتقدمت منظمة حقوق الإنسان الأمريكية (مركز الحقوق الدستورية) بدعوى أمام محكمة اتحادية ضد الرئيس الأمريكي الحالي ومعاونيه بجرم التواطؤ على الإبادة الجماعية لسكان غزة، فهل نتردد أو نخشى أو نستحي نحن من طلب محاكمة ساكن "البيت الأسود" ومعاونيه على اشتراكهم في كل هذه الجرائم البشعة والمروِّعة ؟