إذا شِئنا تقييم الأرباح والخسائر من الحرب الإسرائيلية على غزة فإننا لا بدّ أن نسجل أنّ هذه الحرب أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة، بحيث أصبحت القضية الأولى على طاولة العالم، كما أكسبت الفلسطينيين ثقة بأنفسهم، وبنهج المقاومة الذي لا بديل عنه لتحقيق أهدافهم في الحرية والاستقلال، وإذا انتقلنا إلى الخسائر فإننا لا نستطيع إلّا أن نعترف بأنّ الشعب الفلسطيني قد تحملّ خسائر فادحة على الصعيد البشري والمادي، حيث استشهد ما يقارب (20) ألفاً من أبنائه (70% منهم من الأطفال والنساء)، وجُرحَ أكثر من خمسين ألفاً لا يجدون من يقدّم لهم الخدمة الطبية المناسبة، ناهيك عن تهجير ما يزيد عن (85%) من السكان، وهدم أكثر من (150) وألف وحدة سكنية.
ولكن الذي لا شك فيه أيضاً هو أن العالم كله خسر بسبب هذه الحرب ولعلّ ذلك يتجلى فيما يلي:
أولاً: لقد دأبّ العالم على اعتبار الحكومات "المنتخبة" في الدول الديموقراطية معبّرة عن توجهات شعوبها، ولكننا نلاحظ بوضوح أن الحكومات الغربية في سياق الحرب الإسرائيلية على غزة لم تعد كذلك فرغم أن أكثر من (61%) من الأمريكيين لا يوافقون على سياسة "بايدن" المنحازة تماماً لإسرائيل إلّا أنّ "بايدن" وإدارته يتجاهلون ذلك وينحازون إلى الجانب الإسرائيلي بصورة مطلقة!، ورغم أنّ المظاهرات "المليونية" تعم لندن إلّا أنّ بريطانيا تُصرّ على دعمها اللا محدود لإسرائيل، وقل مثل ذلك في معظم الدول الأوروبية التي تقف شعوبها في واد، وحكومتها الديموقراطية في وادٍ آخر! ألا يعني ذلك أن مفهوم الديموقراطية قد تزعزع فعلاً؟ ألا يمكن أن نستنتج أن الحكومات "المنتخبة" ديمقراطياً قد لا تعبّر عن رغبات شعوبها وتطلعاتها؟ وإذا كان الأمر كذلك فما قيمة الديمقراطية بالنسبة للشعوب؟
ثانياً: لقد طور العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) مجموعة من القوانين كالقانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني، كما وافق على عدد من الاتفاقيات كاتفاقية جنيف الرابعة لكي يضبط السلوك الإنساني في الحرب، ولكي يعبّر عن تحضّره وتمدّنه حتى في الحروب، ولكن الذي نراه على أرض الواقع في غزة هو أنّ إسرائيل ضربت بعرض الحائط كل القوانين والاتفاقيات التي يجب الالتزام بها خلال الحرب فهل تجيز هذه القوانين والاتفاقيات القصف العشوائي للمدنيين (كما اعترف بايدن أخيرا")، وهل تجيز تهجير السكان من أماكن تواجدهم، بل هل تُبيح قصف المدارس والمستشفيات؟ لقد مارست إسرائيل كل ذلك جهاراً نهاراً أمام العالم الذي لم يستطع حتى الآن فعل أيّ شيء، وعليه فليس من قبيل المبالغة أن نقول بأن العالم كله يكتشف الآن أن القوانين والاتفاقيات التي وضعها والتي كان من المفترض أن تعبّر عن ارتقائه وتمدّنه حتى في الحروب ليست أكثر من حبر على ورق حينما تصطدم بمصالح الدول حيث تفرض القوّة نفسها وفقاً لمبدأ (might is right) أيّ القوة هي الحقيقة، أو أنّ الذي يملك القوة هو الذي يملك الحق!
ثالثاً: لقد قطعت الإنسانية جمعاء شوطاً طويلاً على طريق تحقيق ذاتها، بحيث لم يعد الإنسان المعاصر - وبغض النظر عن أية قواعد وقوانين واتفاقيات - يقبل أن تُمتهن إنسانية الإنسان، وعليه فقد طور منظومة ما يُسمى "بحقوق الإنسان" منذ عام 1949 والتي تطالب بالحفاظ على حقوق الإنسان مهما كان جنسه، أو لونه، أو دينه، وتحت أية ظروف، ولكن الذي يتابعه العالم كله الآن في الحرب البربرية التي تشنها إسرائيل على غزة هو تجاوز مريع على إنسانية الإنسان فالفلسطيني يُحرم حتى من أساسيات الحياة (الماء، والغذاء، والوقود)، والفلسطيني يُهدم منزله على رأسه ورؤوس أطفاله، والفلسطيني يُهجّر قسراً من بيته الآمن، والفلسطيني يُلاحق حتى في مدارس "الأونروا" وفي المستشفيات. وإنّ يشعر به الإنسان - أيّ إنسان على ظهر هذا الكوكب - هو أن إنسانيته تُخدش، وأنّ هذا الذي تقوم به إسرائيل من مقارفات بشعة تمس إنسانيته في الصميم، بل تجعله يشعر أن المسألة ليست مجرد حرب تدور بين أطراف كل منها يحاول أن ينتصر بل هي حرب تضع الإنسانية على المحك، ولذا فليس كثيراً أن يسأل كل إنسان ذي ضمير حي نفسه: هل أقبل أنا هذا كإنسان وبغض النظر عن أيّ اعتبار؟ ولعلّنا لا نبالغ في الواقع إذا قلنا بأن هذه الحرب هي امتحان حقيقي لإنسانية الإنسان - أيّ إنسان!