من هو الفلسطيني؟.. أنا لا أحب التصنيفات التي تعتمد في تعريف الهوية الفلسطينية, أكره كلمة الشتات, وأكره كلمة التوطين.. أكره كلمة الخط الأخضر أو الأصفر.. أكره الهوية الصفراء أو البيضاء.
الفلسطيني بعد معركة (غزة) تبين أنه قوته لا تكمن في التنظيم الذي ينخرط فيه, لا تكمن في الإرادة والإيمان فقط, لا تختصر في الجغرافيا... قوته تكمن في الهوية, وهي سر تفوقه... والهوية قد تشكلها الجغرافيا قد يشكلها العرق, قد تتشكل أحيانا بفعل الدين وقد تتشكل بفعل الانتماء العقائدي.. بفعل اللغة, لكن الهوية الفلسطينية هي الوحيدة في العالم التي تجاوزت كل ذلك وظلت راسخة تعيد بناء نفسها مع كل منعطف.
ما يحدث في غزة الآن هو ولادة جديدة للهوية الفلسطينية الطاغية الشرسة الصلبة, التي لا تخضع لشروط ولا تمحى ولا تذوب ولا تصهر...
ظنت إسرائيل في مرحلة ما أن اللجوء سيقوم بتفتيت الهوية, وتتحول من هوية راسخة ثابتة ذات امتداد تاريخي إلى هوية اقتصادية.. وبالتالي سينخرط الفلسطيني في مجتمعات الشتات وسيكون حلمه هو الخبز والعيش... غزة نسفت هذه المعادلة, لأن (85%) من سكانها هم من اللاجئين, الذين جاءوا إليها بفعل التهجير القسري والنجاة... وهم مزيج من الشاطئ, من عسقلان.. من الجليل ومن كل بقاع فلسطين, لكن الغريب أن غزة شكلت من هذا المزيج هوية فلسطينية جديدة حين حصلت على جغرافيا مستقلة بعيدة عن التأثيرات.. وأخطر ما توفر هناك هو الاستقلالية الاجتم?عية للناس, والفضاء الديني والقيمي... والتنظيم الصارم.
غزة أظنها نسفت كل ما قاله أمين معلوف في مسألة الهوية, لقد أعادت بناء نظرية اجتماعية جديدة يجب أن تقرأ وتدرس ويتم تعليمها في عالمنا العربي, ويتم اعتمادها.
غزة استبدلت العرق بالجغرافيا, وكونها الجزء الأصيل من فلسطين.. اتحد فيها ابن عسقلان مع ابن اللد والجورة, على حلم واحد هو التحرر.. هذا يعني أن الهويات الفرعية لم تكن يوما عبئا على الهوية الأم بل هي معززة ودافعة ومثبتة لها.
بالمقابل الجانب الاخر وهو إسرائيل تبين أنه من دون هوية, لأنك للان لا تعرف عن ماذا يقاتل الجندي الصهيوني.. عن الإيدلوجيا الصهيوينة؟ الجيل الجديد في دولة الكيان هو جيل الرفاه والمجتمعات الرأسمالية ولا يؤمن بالعقيدة السياسية.. ولا يعرف الكثير عنها, إذا هل يقاتل عن الديانة اليهودية باعتبارها الأساس لهويته؟... تبين أيضا أن المتطرفين في الكيان هم من جلبوا الهزيمة لإسرائيل.. وتبين أن الجانب الديني في السياسة, شكل عبئا على إسرائيل ودورها وديمقراطيتها... وهي الان تفكر بالتخلص منهم.. عن ماذا يقاتل إذا؟ عن مجتمع رأسم?لي.. تبين له في النهاية أنه مجرد قاعدة أميركية متقدمة في المنطقة... أو أداة, ولو ترك وحيدا في المشهد لسقطت إسرائيل من أولها إلى اخرها...
نعود لسؤالي من هو الفلسطيني، هو صاحب الهوية الأشرس والأقوى في العالم...لقد أثبت أن هويته لن تنصهر، ولن تخضع لشروط السياسة، لأن الهوية هي من تصنع الحدث وهي من تنتج الدولة..هي من تفرض المعادلة، وليس العكس...الدولة في النهاية تخضع في حركتها لتجاذبات وحركة لهوية..مهما حاولت شطبها أو تهميشها.
بعد غزة، ستدرس الجامعات الغربية مساقا خاصا في الهوية الفلسطينية..صدقوني سيدرسون عن (المقلوبة) وعن (المسخن)..سيحاولون دراسة الأنماط الاجتماعية في غزة، سيحاولون فهم طريقة صنع (الشطة)...العالم ليس أمام مشهد حرب دامية، ولكنه أمام مشهد هوية فلسطينية تعيد بناء نفسها وتتشكل في كل مرحلة وتصر على البقاء وتنتصر...
في عالمنا العربي وبعد أن تنتهي الحرب، قد لا نحتاج لوزارات ثقافة بقدر ما نحتاج لوزارات في الحفاظ على الهويات والخصوصيات الوطنية، لأنها هي أساس الانتصار ومعقله.