بعد مرور أكثر من شهرين على اندلاعها، كشفت الحرب على غزة يوما بعد يوم عمق السياسات المضللة والموجهة لعمل المنظمات الدولية في المنطقة في حرف بوصلة المجتمع نحو عناوينها وسردياتها المنادية بالديمقراطية والحرية والمساواة والانسانية، فكانت درساً دسماً لجيلٍ قادم أحرفت الحرب على غزة بوصلته ووعيه لحقيقة وسياقات وجود المنظمات وتمددها بأذرعها المختلفة في المنطقة، التي نخرت المجتمع وتسللت لحواضنه لتحقيق مصالحها وأجنداتها، والتي كشفتها حرب غزة بكل تفاصيلها ومآلاتها القادمة.
وكما نعلم جميعاً أن العديد من المنظات الدولية تزاحمت في المنطقة العربية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي برعاية امريكية وأوروبية، وخلقت بيئة جديدة وبديلة لدور اليسار والقوى الوطنية المختلفة، وفرّغت خطاب الموسسات السيادية الوطنية من بعدها القومي والوطني وحولت قضاياه المتماسكة والمترابطة ثقافياً وسياسياً واقتصادياً الى موضوعات ومفاهيم متناثرة مجزوءة عن المجتمع كالقضايا الانسانية المدنية منها والحقوقية المرتبطة بالشباب والمرأة والطفل ...الخ.
ومع الزمن اكستبت هذه المنظمات مساحات فعل كبيرة وأصبحت أدوات مزاحمة لقوى المجتمع المدني الكلاسيكية كالأحزاب والنقابات، بل وقضمت دور الدولة وتحاول ابتلاعه وهيمنت على مؤسساته العامة وقواعده الاجتماعية وأضعفته، فأنتجت برامجها ومفاهيمها بمقاسات تتناسب مع مصالحها تحت غطاء مزيف ينادي بمفاهيم تتساوى به الانسانية بعيداً عن التحيز والتمييز، والتي جاءت حرب غزة لتكشف زيفها بكل ما تحمله من معاني الوحشية والهمجية، ولتدفعها بالانزلاق بديموقراطيتها وشعاراتها حول الحقوق الانسانية الى الدرك الاقصى جراء ازدواجية المعايير والانحياز الاعمى والانحطاط الاخلاقي، وحرفية تزييف الحقائق.
هذه المنظمات التي كانت تصول وتجول في مؤسسات الدولة باعتبارها مصنع التحديث والحداثة للمجتمع وأجياله، لم نرَ منها خلال حرب غزة لا صولاً ولا صهيلاً، وتكشفت مرجعيتها الليبرالية والنيولبرالية المستندة على مركزية الثقافة الغربية دون سواها، فسقطت أصل ليبراليتهم على جدار غزة، فكيف وكلائها في المنطقة ؟
أجزم أن حرب غزة شكلت وعياً حقيقياً للجيل القادم، ليس للقضية الفلسطينية فقط، بل وعيه لقضايا انسانية عادلة تتساوى بها الشعوب تحت مظلة العدالة والمساواة وعدم التحييز والتمييز بين أطياف البشرية كافة، كيف لا ؟ فبعد عقود طويلة للمنظمات في مجتمعاتنا وإطرابنا بمفرداتها الغربية وتسويق منتوجاتها الفكرية المختلفة، شهدنا إرادة واصرار جيل كامل مقاطع لرموز الثقافة الغربية وماركاتها العالمية.
وفي ظل الوعي الحقيقي لا المزيف لواقع هذه المنظمات التي كشفتها حرب غزة، يجب على الدولة أن تأخذ مسارات جديدة، و تضع حداً لهذه المنظات ومخالبها التي افترست المجتمع وجالت في أروقة الدولة لعقود فأفقدتها بوصلتها.