أثارت حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة المخاوف بشأن التحديات الجيوسياسية التي يواجهها الممر الاقتصادي متعدد الأطراف الذي تدعمه الولايات المتحدة (الممرّ الهندي، "الكوريدور" الهندي)، والذي يصل الهند عبر دولة الإمارات بحريا، ثم منها عبر السعودية والأردن إلى موانئ دولة الاحتلال، وصولا إلى موانئ جنوب أوروبا ثم إلى مختلف الدول الأوروبية.
ويمثّل هذا الممرّ تحدّيا واضحا ومنافسة اقتصادية هامة لمبادرة الحزام والطريق الصينية.
ومع أن مشروع الممرّ الهندي لا يزال في أولى خطواته، وأن هناك شكوكا في فاعليته وجدواه، إلاّ أن اتفاقا حوله تمّ توقيعه في صيغة اتفاقية تعاون أولي بين الولايات المتحدة والإمارات والسعودية وفرنسا وإيطاليا وألمانيا. ويؤثر المشروع على عدد من دول غرب آسيا ووسطها، إلى جانب الصين طبعا، وتركيا الطامحة بتأدية دور العقدة التجارية، ومصر التي ستتأثر بالمشروع نظرا لمنافسته قناة السويس. وهذا المشروع يوفر نحو 40% من الوقت مقارنة بالشحن عبر قناة السويس، ويتضمن الاتصالات الرقمية وتقنيات طاقة نظيفة منافسة، ولكنه يبقى محدودا بالمقارنة مع مبادرة الحزام والطريق الصينية.
ومثلما أبرزت الحرب الروسية–الأوكرانية، أو الحرب بين روسيا والناتو في أوكرانيا، الأهمية الجيوسياسية والاستراتيجية للطاقة وخطوط نقلها، فإن حرب دولة الاحتلال على غزة أبرزت هشاشة المسار الذي يُراد لطريق الهند أن يعبره، في ساحة تشهد حرب الإبادة هذه، وتوسّعها المحدود حتى الآن، واحتمالات امتدادها لتتحول إلى حرب إقليمية ذات أبعاد عالمية.
وبهذا المعنى، أظهرت الحرب على المقاومة والشعب الفلسطيني في غزة وعموم فلسطين أنه دون حل عادل لقضية الشعب الفلسطيني، ونيله لحقوقه المشروعة، فإن أيّ مشروعات اقتصادية تبقى عرضة لمخاطر وتهديدات كبرى، بل ولأن تتحوّل إلى سراب، في منطقة يفرز الظلم على ساحاتها ردود أفعال تتجاوز الحسابات النظرية للمصالح الاقتصادية، وخاصة حين تكون القضية المطروحة قضية حقوق شعب بأكمله، وذات أبعاد وامتدادات وآثار تدخل في مركز مصالح دول المنطقة، كالقضية الفلسطينية، التي ثبت بكل وضوح أن الإخفاق في حلّها حلاّ عادلا سيولّد الأزمات والمخاطر والحروب، طال الزمن أو قصر. وهذا ما كانت المملكة الأردنية الهاشمية تردّده على مسامع العالم، طوال عقود ...
وقد بيّنت الحرب مخاطر تهجير الفلسطينيين على أمن المنطقة والعالم، وهي مخاطر قائمة وداهمة، سواء بما يهدد الأمن القومي المصري بالعمل على تهجير فلسطينيي غزة إلى مصر، وهو ما تقوم به دولة الاحتلال الآن، أو، وبما لا يقلّ خطورة، بل وبما يمثل تهديدا مباشرا للكينونة الأردنية برمّتها، بمحاولة تهجير فلسطينيي الضفة الغربية إلى الأردن، وهو فعل دونه الحرب! والآثار الاقتصادية لهذا الخطر جوهرية وماثلة.
ولعلّ من أهمّ ما بيّنته وتبيّنه الحرب على غزة، خطأ بعض دول المنطقة التي بنت حساباتها على أن التطبيع الإبراهيمي يضع القضية الفلسطينية على الرّفّ، أو أن الشرق الأوسط يمكن أن يشهد استقرارا أمنيا واقتصاديا على أنقاض الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني.
ومن النتائج المباشرة والشبيهة أيضا، اتّضاح الأبعاد السياسية والأمنية لبعض المشروعات الاقتصادية التي تضعها دولة الاحتلال على قائمتها التنفيذية، مثل مشروع "قناة بن غوريون" بين إيلات وشمال القطاع، وربما عبره، وبما يمثّل منافسا قويا لقناة السويس، حين تكون هذه القناة بممرّين بدل الممرّ الواحد في قناة السويس. واستراتيحيا، تضمن "قناة بن غوريون" لدولة الاحتلال السيطرة على خطوط الملاحة الأهم عالميا، كما تسمح بتحويل دولة الاحتلال إلى حلقة وصل مركزية في خطوط الملاحة الدولية. والحرب على غزة تعيد من هذا الباب أيضا طرح التناقض الموضوعي بين المشروعات والحقائق السياسية الصلبة على الأرض، مثلما تطرح تحدّيات الأمن القومي العربي بكونها كلاّ متكاملا، وهذ ما لا يمكن أن يتجسّد إلا على أرضية اقتصادية.
ويمكن إدراج عدد آخر من النتائج الاقتصادية التي أبرزتها وتبرزها حرب الاحتلال على غزة. فالتصعيد على جبهة جنوب لبنان، والخطوات التي تتخذها "حركة أنصار الله" الحوثية على الممر البحري العالمي من بحر العرب وباب المندب إلى البحر الأحمر وصولا إلى قناة السويس وخليج العقبة وخليج إيلات، إلى جانب التوترات الساخنة تجاه القواعد الأميركية في كل من العراق وسورية، تثير كلها أسئلة حادّة وممارسة بالنار على كل ما يتصل بآبار النفط والغاز والطرق والممرات في المنطقة وشرق المتوسط.
وعلى الصعيد الأردني، تمثّلت أولى الارتدادات الاقتصادية لزلزال غزة في طيّ صفحة مذكرة التفاهم بين الأردن ودولة الاحتلال، والتي ينتج الأردن بموجبها 600 ميغاوات من الطاقة المتجددة لصالح إسرائيل، وتقوم إسرائيل بتحلية 200 مليون متر مكعب من المياه لصالح الأردن، بعد الموقف الشعبي والرسمي المستنكر لجرائم الإبادة الجماعية التي يمارسها الاحتلال ضدّ الأشقاء الفلسطينيين. وبوشر في هذا السياق، وبتأكيد ملكيّ، العمل للإسراع في تنفيذ مشروع تحلية المياه (الناقل الوطني) لتزويد المملكة باحتياجاتها من المياه خلال السنوات الثلاث المقبلة على أبعد تقدير. كما تُطرح الآن مشروعات حلول تستطلع بإمكانية استبدال الغاز الذي يستورده الأردن من دولة الاحتلال بمصادر أخرى مأمونة، ولو بكلفة أعلى. فلقد أظهرت الحرب على غزة أن من الخطورة بمكان على أمن المملكة، جعل مصدر طاقة مركزيّ الأهمية كالغاز، في يد محتلّ لا يُؤمن له جانب. ويمكن في الواقع الاستمرار طويلا في سرد المزيد ممّا قدّمته الحرب على غزة من أمثلة وقائع المخاطر الكبرى التي تحيط بأي منظور اقتصادي يتغافل عما هو جوهريّ ومركزي في المنطقة؛ القضية الفلسطينية.