هل استوعبَت "إسرائيل" صدمة الهزيمة في غلاف غزة وأشبعت غريزتها بالقتل؟ وهل انتقلت إلى المزاوجة بين الانتقام وتصفية القضية الفلسطينية؟ وإلى أي مدى؟ وكيف؟
هذه أسئلة مهمة لفهم الأحداث واتجاهاتها، ومن شأن تقييمها بموضوعية أن يتيح للأردن تصميم مقاربة واقعية دقيقة للتعامل مع كل تداعٍ محتمل للحرب تجنبًا لأي مفاجأت أوحسابات خاطئة.
في بداية رد فعل "إسرائيل" كان عدوانها انتقاميًا، ومن ثم أضافت إليه مشروع تصفية القضية الفلسطينية باعتبار الحرب فرصة مثالية لإمكان جعل هذا المشروع واقعاً مُعاشاً.
وربما تأخذ "إسرائيل" بالحسبان أنه إذا لم يكن بمقدورها تصفية القضية الفلسطينية تصفية تامة ودفعة واحدة في الضفة الغربية وقطاع غزة، فهي على الأقل ستحاول أن تؤسس لذلك في القطاع كمرحلة أولى.
هذا لا يعني، أبدًا، أنّ طريق "إسرائيل" سالكة وممهَّدة لإنفاذ خططها ومشاريعها، وإذا ما ظنت وتوهمت في البداية أن بمقدورها إنجاز المهمة، فهي بعد شهرين ونيف على عدوانها تيقنت أنّ طريقها صعب، وأنها أمام مجابهة جدية وحقيقية في قطاع غزة.
فالمقاومة فرضت واقعًا لم يكن في حسابات الكيان وحلفائه، وباتت حائط صدٍّ يستحيل تخطيه، وربما يتحول القطاع إلى مقبرة لمخططاتهم التصفوية والتطبيعية بما لها من امتدادات إقليمية.
مع ذلك وبرغم أن معطيات الحرب ومتغيراتٍ دوليةٍ وإقليميةٍ لا تخدم "إسرائيل"، إلا أنها ستجابه وتقاوم أي ضغوط لوقف الحرب بذريعة الدفاع عن النفس وتوفير الأمن وتحقيق هدفها المعلن بإنهاء المقاومة وحكم حماس لقطاع غزة، وتاليا إمكان تصفية القضية الفلسطينية كهدف غير معلن.
ما يؤشر، ولن أقول يؤكد، أن "إسرائيل" دمجت بين عقليتها الانتقامية وسعيها لتصفية القضية هو سلوكها وطريقة إدارة عدوانها على غزة، وهو نموذج يمكن أن تكرره ذاتَه أو معدَّلاً في الضفة الغربية.
فما الذي تفعله في قطاع غزة..؟
"إسرائيل" تحاول، بكل قوة، تحقيق هدفها الرئيس بتهجير كامل سكان قطاع غزة إلى سيناء. سبيل ذلك جعل القطاع أرضاً محروقة ومكاناً غير صالح للعيش. ولتحقيق ذلك تقوم بأمرين:
أولا: القتل: منذ بداية العدوان إلى الآن استشهد أكثر من 17 ألفًا، وجُرح أكثر من 46 ألف إنسان من أبناء القطاع، مع مليون ونصف المليون نزحوا عن بيوتهم، فضلًا عن أوبئة وأمراض تتفشى بصورة كبيرة.
ثانيا: التدمير: دمرت الحرب، كليًا أو جزئيًا: 121 مقرًا حكوميًا، 275 مدرسة، 194 مسجدًا، 3 كنائس، 253 ألف وحدة سكنية تضررت جزئيا، 52 ألف وحدة سكنية هدماً كلياً، 21 مستشفى، و110 مراكز صحية، فضلا عن تدمير بنى الكهرباء والماء والصرف الصحي والطرق.
هذه المنهجية التدميرية لا تعبّر عن ذهنية انتقامية مدفوعة بغريزة وشهوة القتل وحسب، بل تعبر أيضًا وبصورة لا تقبل الشك، عن مخطط ونمط عمل يستهدف جعل حياة الغزيين في القطاع مستحيلة.
وحتى لو توقفت الحرب وعاد الغزيون إلى مناطق سكناهم، فـ"إسرائيل" تتوقع أنهم لن يحتملوا البقاء طويلًا بدون مقومات الحياة، وقد يندفعون إلى الحدود مع مصر، في مرحلة ما خصوصا وأن الكيان سيعرقل، إذا لم يمنع، إعادة الإعمار لتعميق أزمة القطاع وأهله.
هذا توقُّع "إسرائيل"، ولا أظنها ستحقق ما تأمله، فأبناء غزة أثبتوا أنهم صامدون وباقون في بلدهم وعلى أرضهم رغم الجرائم والإبادة التي يتعرضون لها، ورغم حرمانهم كل مقومات الحياة.
هذا الصمود أسطوري، ولا شبيه له أو مثيل، في التاريخ الحديث على أقل تقدير، لكنه يحتاج تعزيزاً، والأهم أن يتزامن التعزيز مع العمل على وقف العدوان الغاشم الهمجي..
ووقفه يعني إفشال تهجير أبناء غزة وأبناء الضفة الغربية، وهذه مصلحة أردنية مصرية متصلة بأمنهما القومي، وعربية كذلك، وتستدعي ردودا منسقة.
كيف ذلك..؟
عندما تخوض صراعًا أو حربًا مع خصم أو عدو، من البديهي أن تفتش وتبحث عن نقاط ضعفه لتعظّمها، وأوجُهِ قوته لتهشّمها.
وإذا ما توافرت الإرادة والقدرة، يمكن المبادرة لإحداث تصدعات في جسد عدوك أو خصمك لإضعاف جبهته الداخلية وإشغاله بأزمات قد تكون سببًا في خلق وقائع تدفعه إما إلى تسويات سياسية (...) أو هزيمة كاملة.
بيئة ذلك متوفرة وقابلة للاستثمار فيها والبناء عليها، ومنها:
أولًا: التصدع في البنية السياسية الإسرائيلية، مجلس حرب منقسم (بنيامين نتانياهو) في جهة، و(بني جانتس وجادي آيزنكوت ويوآف جالانت) في جهة مقابلة، والائتلاف الحكومي متصدع بفضل تطرف وزيرَي الأمن القومي (إيتمار بن غفير) والمالية (بتسلئيل سموتريتش) وتعنّتهما.
ثانيًا: النخبة السياسية فقدت الثقة برئيس الائتلاف (نتانياهو) وقدرته على إدارة الدولة والحرب، والمعارضة التي يقودها (يائير لبيد) تدعوه للاستقالة، وهذه النخبة نفسها تجد أن أهداف الحرب متصادمة (تحرير الأسرى، والقضاء على حماس) والأخيرة بفهم إسرائيليين غير واقعية.
ثالثًا: ذوي الأسرى يضغطون عبر الشارع، ويتهمون مجلس الحرب بأنه لا يأبه بهم، ولا بمصير الأسرى، ويدعون إلى صفقة تبادل مع المقاومة.
رابعًا: المجتمع "الإسرائيلي" لم يعد يثق بإمكان تحقيق أيّ نصر بعد أكثر من شهرين على الحرب، وهو مجتمع حساسيته شديدة تجاه الخسائر التي يتكبدها الجيش، ولا يرى أن المقاومة تضررت، بل يراها بعيدة عن الهزيمة.
خامسًا: تراجع الهجرة إلى "إسرائيل" 70%، فيما غادرها نصف مليون يهودي، ولا يبدو أنهم بوارد العودة، ونحو 250 ألف مستوطن هُجِّروا من مستوطنات شمال الكيان وجنوبه إلى وسطه.
سادسًا: الاقتصاد معطل، وكلف الحرب تُجاوِز الـ 50 مليار دولار، وعجز الموازنة يتفاقم.
سابعًا: الرأي العام العالمي ينحاز لصالح غزة ويناوئ "إسرائيل" ويضغط على حكوماته لوقف حرب الإبادة على القطاع.
ثامنًا: إزاحات، ولو شكلية، في الموقف الأميركي أدت إليها تباينات داخل البيت الأبيض والمجتمع الاستخباري والعسكري والكونغرس، ورغم أنها ليست حاسمة وربما تكون مخادعة، لكنها لافتة في معارضة قتل المدنيين ورفض التهجير والتشديد على الجوانب الإنسانية والتأكيد على حل الدولتين.
تاسعا: أميركا أيضا، تراجعت ثقتها، وبخاصة الرئيس (جو بايدن) بـ(بنيامين نتانياهو) إلى ما يقارب الصفر، وواشنطن أصبحت تدرك أنّ (نتانياهو) يهرب إلى الأمام ويريد أن يواصل الحرب لأسباب شخصية، وأنه ربما يسعى إلى التصادم مع أميركا بتجاهل مطالبها حتى إذا ما أجبرته على وقف الحرب سيقول للإسرائيليين أنه كان في طريقه لتحقيق نصرٍ لكن أميركا منعته، أي يريد شمّاعة يعلق عليها فشله المقبل. ولهذا يبدو أنّ واشنطن تحاول أن تفصل بين (نتانياهو) و"إسرائيل"، وهي تريد للأخيرة أن تنهي حماس في القطاع لكن بنمط حرب مختلف عن الراهنة، لان اميركا لها حساباتها الداخلية ومصالحها الخارجية.
عاشرًا: لغة حلفاء "إسرائيل" في بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا بدأت تتطور في غير صالحها، ولو نسبيًا، ذلك أن الحلفاء باتوا تحت ضغط الرأي العام بفعل حرب الإبادة، وتعاظم قناعتهم أن نصر "إسرائيل" بعيد وليس بمتناول اليد.
حادي عشر: الأمم المتحدة بكل مؤسساتها وأذرعها، وعلى رأسها الأمين العام (أنطونيو جوتيريش) دخلوا في حال تصادم مع "إسرائيل" التي جن جنونها من (جوتيريش) لدرجة اعتبرت تصريحاته "تهديدًا للسلم والأمن الدوليين" بعدما لجأ إلى المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة طالبا من مجلس الأمن التدخل لوقف الحرب.
إن هذه المعطيات مجتمعة كفيلة بوقف العدوان على غزة، وإفشال مشاريع "إسرائيل" ومخططاتها لتصفية القضية.
هي فقط معطيات تريد من يستثمرها ويبني عليها، ويعرف كيف يوظفها ضمن منهجية عمل ذكية ومنسقة ومدعومة بقوة الحجة ومنطقها..