المهندس مصدق السرطاوي - اميركا
رحم الله خلف وادي الخوالده.... بلا مقدّمات وبلا وداع رحل وكأنّه في عجلة من أمره... يا أبا محمّد... كأنّك على موعدٍ لا تريد تأجيله غير آبه بمن على هذه الأرض الفانية... رحمك الله وأحسن مثواك، رحمك الله وعفا عنك، رحمك الله وأسكنك فسيح الجنان وأكرمك وأكرم نزلك وحشرك مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً.
هذا ليس رثاءً ولا تأبيناً ولا نعياً لأبي محمّد، فهو حاضر في القلب والوجدان، سيذكره بالخير كثيرون، سينعاه كثير ممن عرفه، سيكتب عنه ويتحدث عنه كثيرون.. وإنّما هي جلسة وداعٍ له، وجلسة مواساة لأبنائه وبناته ورفيقة دريه ومحبيه ومراجعة لذكريات ولمواقف لا يتّسع المقام للمرور عليها. إنّها لحظة وفاء لعلاقة دامت لأكثر من ثلاثين سنة.
خلف وادي الخوالده..... إنّها الشّخصيّة المؤثّرة، إنّها القدوة التي يذكرها الشّخص في مواقف كثيرة، وإنّهم القلّة القليلة في هذه الأيام الذين برحيلهم يذكرهم ويترحّم عليهم البعيد والقريب والحبيب والصديق.
خلف وادي الخوالده.. الشيخ والحاج والمعلّم وصاحب المواقف، صاحب الإبتسامة العريضة والفكرة الحاضرة، صاحب الكلمة واليراع الذي يكتب ما في القلب بلا لفّ ولا دوران.... أبو محمّد الأخ والصديق والمعلّم والأب الذي لم يكن يَنسى ولا يتأخّر عن واجب وعن أي عمل خير يقرّب الى الله عزّ وجل.
كانت عنده قضاء حاجة طفل في مخيّم البقعة أو في سلحوب أو في المصطبة لا تقل أهميّة عن حاجة أبنائه، لم يقف يوماً أمام مسؤول ولم يطرق باب دائرة حكوميّة لطلب المساعدة أو لقضاء أمرٍ شخصيٍّ له ولأبنائه ولأقاربه بقدر ما كان يقف طويلاً ويجادل كثيراً ويحاجج كثيراً من أجل قضاء مصلحة لمحتاج أو للتعبير عن موقف يخص أبناء الوطن...
جمع أبومحمّد بين شهامة وكرم البدوي وبين روعة ولباقة الحضري، تمسّك بالماضي المجيد وأخذ بأسباب الحضارة والحداثة، جمع بين حسن الإدارة وحسن تنظيم العمل وبين تنفيذ ما يتطلّب التنفيذ. جمع بين قوّة المسؤول في الحق وقوّة الضعيف في طلب الحق. لم يخشى في الله لومة لائم ولم يتردّد في قول ما يؤمن به، كان يكتب لكل المستويات، كان يخاطب جلالة الملك بما يليق بمقامه ويخاطب أبسط الناس بما يفهمه ويستوعبه.
عندما اقتضت الضرورة ترشّح وخاض انتخابات مجلس الأمّة، لقي الدّعم والمساندة من الكثيرين لأن كل من يعرفه يُدرك أنّه ما سعى الى منصبٍ إلاّ لمساعدة المحتاجين وإيصال كلمتهم للمسؤولين والمعنيين... لم يكن من ذوي الدعاية المزيّفة ولا ممّن يتلقى الدّعم لأغراض خاصّة.... ولا ممن يمطر الناس بالوعود ويمنيهم بالأوهام.
لم يتردّد في الكتابة في الصّحف الأردنية ولم يتردّد في مخاطبة وسائل الإعلام المختلفة إن رأى ما يخدش كرامة مواطن، أو ما ينغّص على شخصٍ أيّاً كان.... كتب مقالات كثيرة حول العلاقة الأردنية الفلسطينيّة كلما رأى من يحاول مسَّ تلك العلاقة المقدّسة من المندسين والمغرضين، كتب مطالباً لخدمات يحتاجها مخيّم البقعة، وخدمات تحتاجها منطقته في سلحوب والمصطبة وتل الرّمان، دعا لتقديم العون لكل من لجأ الى الأردن من عراقيين وسوريين وأخيراً يمنيين وليبيين.... دعا في كتاباته لوحدة الصّف ووحدة الكلمة.... لم يتردّد أن يستنهض الهمم ويذكّر المسئولين بأمور غابت عنهم.
قرأت له مرّة ما كتبه لتذكير الحكومة والمسؤولين بما قدّمه المرحوم المهندس محمد سعيد عرفة من خدمات جليلة للأردن يوم كان مديراً لكهرباء إربد ثمّ مديراً عامّاً لسلطة الكهرباء الأردنيّة، فلم يُطق أبا محمّد أن يرى أبا سامر مريضاً ملازماً بيته بعد قوة وعطاء، لم يتوان عن الكتابة لشد انتباه المسؤولين الذين غفلوا عن تكريم من قدّم للوطن، واحترام من يستحق الإحترام حتى وإن كبر وضعف، فالفضل يُنسب لأهله والحق لا يصبح باطلاً والشمس لا تغطى بغربال.... كتب أبا محمّد فهزَّ وجدان المسؤولين الذي سارعوا للإستجابة.
قرأت له الكثير من الخطابات الموجّهة لمقام جلالة الملك وللمسؤولين في الحكومة وللموظّفين في الدوائر، يحثّهم على تقديم العون والخدمة للناس واللطف بالمواطن.
كانت آخر مآثره ما كتبه للمعنيين بالتنازل عن نصف راتبه التقاعدي الذي هو من حقّه، بعد ما قدّمه من خدمة للوطن. تنازل عن نصف راتبه لخزينة الدولة عندما ضنَّ الأهل وقست العشيرة وتلكّأت دول الخليج عن تقديم الدّعم للأردن الذي يتحمّل عبء اللاجئين والمشردين من عراقيين وسوريين وغيرهم.... كانت سابقة رائعة أدّت الى نتائج كبيرة، صار الكل يعيد النظر في مواقفه، ويرقب ما يقدّمه ويحس بقصوره تجاه وطنٍ قدّم الكثير لأبنائه.
لا يتّسع المقام لسرد قصصٍ من هذا القبيل، ولا يتّسع المقام لذكر أسماء كبيرة تحفظ لأبي محمّد حقّه في التقدير والإحترام، فمناقبه كثيره ومواقفه لا تُحصى، وبيته كان قبلة للأهل والعشيرة وموائده عامرة بالضيوف والمحبين.... قهوته لا تبرد وابتسامته لا تفارق فاه بالرغم من كل الصعوبات والظروف التي مرَّ بها. كان القائد الذي يحرّك فرقة كاملة إذا ما حلَّ به ضيفٌ أو زائر.... يتفرّغ للحديث ونظراته كافية لتوجيه من حوله من ألأبناء والأهل والعشيرة.... الكل في خدمة من نزل بالديار، والكل مستعد لتقديم ما تحمله إشارة أو نظرة أبي محمّد من طلبات.....
بدأت معرفتي به يوم قدّمني له العم والوالد بهجت محمّد سعيد (أبو سلام) شافاه الله وعافاه وحفظه من كل سوء وأمدّ في عمره، كنا نمرُّ من منطقة العبدلي بعمّان، عندما قال لي: تعال أعرّفك على شخصٍ ستحبّه وهو قلّما تجد مثله... شوّقني للقاء أبي محمّد..! وبالفعل قدّمني له، ولا زلت أذكر ذلك اليوم وتلك الإبتسامة وتلك الدّماثة، فبالرّغم من بزّته العسكريّة ومركزه المرموق إلاّ أنّني شعرت بتواضعه الجم وحسن استقباله وكرم ضيافته... ومنذ ذلك اليوم وأنا أعرفه، لم يتغيّر ولم يطرأ على مبادئه أي تغيير بالرّغم من مروره بمراحل مختلفة، منها الصعب ومنها السهل. واليوم وقد مضى ما يزيد عن ثلاثين عاماً من العلاقة الوطيدة قضينا منها عشرة أعوام نعمل سويّاً في المؤسسة المتّحدة للتقنيات الدولية بعمان وبصحبة الأخ العزيز فراس بهجت سعيد. كان أبو محمّد يأتي للمكتب صباحاً وابتسامته العريضة تسبقه، يلاطف الجميع ويمازح الصغير والكبير، كانت أولى مهامّه تناول فنجان قهوته وقراءة الصحيفة التي لا يستطيع بدء يومه بدون تصفّحها....
كان يرفع كوفيّته التي لم تفارقه إلاّ القليل، يمسك بجريدة الرأي ويبدأ من آخر صفحة التي كان يسميها (صفحة الحق) وهي صفحة الوفيّات، يقرأ أسماء الوفيّات... ترى وجهه يمتقع ولسانه يلهج بالدعاء، يتحوّل تارة ويترحّم أخرى... كلّما مرَّ على إسم يعرفه أو يعرف أحد من ذويه يتوقّف، ينظر لي ويتحدّث عن مناقب المتوفّي، يحدّد موعداً نذهب فيه سويّاً لتقديم العزاء إن كان عندي الوقت، لم يتأخّر يوماً عن تقديم واجب ولم يتوانى في مواساة أحد. كان برنامج يومه تحكمه الواجبات المترتبة على تقديم العزاء أو حضور صلح أو فرحٍ أو جاهةٍ أو عيادة مريض أو السّلام على عائد من حج أو عمرة أو سفر..... لا أعرف كيف كان يستطيع أن يدير وقته وينظّمه للقيام بكل ذلك...!
رافقته لزيارة كبار المسؤولين وضعاف المحتاجين، رافقته لقضاء واجب تجاه صديق وقضاء حاجة لفقير... زرت بصحبته قصوراً فخمة وبيوتاً متواضعة، يتقن الحديث ويمتص غضب الثائر ويعرّف المخطىء بخطئه بلا حرج، يجابه المسؤول والسائل بالدلائل فلا يتحرّج من قول ما يمليه عليه ضميره.
واليوم ها نحن نودّع أبا محمّد ونزفّه للقاء ربّه بروحٍ راضية مرضيّة، فدعاء الأيتام والأرامل والفقراء والمحتاجين عند الله أقوى من كل الأسلحة والمناصب... إنّني واثق أنّه سيفتقده الكثيرون وأوّلهم أنا.....! لا أتصوّر أن أعود الى الأردن ولا أجده يجلس على مكتبه، ينهض ويبتسم ويرحّب ويعانق ويسأل، يستقبل هذا ويدّع ذاك، يوجّه هذا ويستجيب لذاك... أتصوّر بل وأعرف كم من الناس سيفتقده ويترحّم عليه وتدمع عيناه على فراقه.
هذا قضاء الله، هذا هو الموت، هذا حقٌّ على كل العباد، فلا أجد بدّاً من التسليم لأمر الله وتقديم التعازي للأخت أم محمّد رفيقة دربه التي ما تأخّرت يوماً عن رفع رأسه عالياً أمام ضيوفه، فقد كان ديوانه في بيته عامراً دوماً بالضيوف والمحبين والأقارب والسائلين... كما أتقدّم بخالص العزاء للإخوة الأفاضل المحامي الأستاذ محمّد والمحامي سامي والأحبّة عاطف وعبدالله، أشدُّ على أياديهم وأتمنّى عليهم تكملة الطريق التي بدأها والدهم.... طريق المحبّة والعطاء والصدق، طريق الحق والعدل.... وأسأل الله أن يساهموا في تعبيد الطريق التي تمنّى أن يسلكها ليصلّي في الأقصى الشريف. كما أقدّم خالص التعازي للأخوات الماجدات عطاف ووصال وناريمان، كما أتقدّم بالتعازي من زوجات أبنائه الماجدات وإلى أنسبائه وأحفاده وأسأل الله أن يرزقهم الصبر والسلوان...
أعزي نفسي وأعزي أصدقائي وأحبّتي من آل الخوالده الأفاضل ومن عشيرة بني حسن الأكارم... أعزي كل من يعرف أبا محمّد وكل من عمل معه وجالسه.... لا حولا ولا قوّة إلاّ بالله وإنّا لله وإنّا اليه راجعون.