يكبلنا الأسر ما بين واقع وحلم فتارة نقبع في كهوف اليأس والألم يقتات على أوصالنا الأنين وتارة نحلق في سماء التفاؤل والأمل نحلم بكل ما هو جميل. نحن أسرى أوهامنا قبل أي أسر وما أوهمنا به أنفسنا من عجز ووهن برضوخ وخنوع غير مبرر خوفاً من مجهول مبهم أو توقاً لمستحيل مشتهى معتنقين بفكرنا أساطير نسجت من خيوط سراب يكتنف عقولنا فيلبد حواسنا في غمار متاهات أبداً لا تنتهي. كتلك الأسطورة الخيالية التي عشناها عقوداً عديدة عن قوة لا تقهر ولكنها اليوم دُكت بعزيمة شعب أيده الله بجنود ونصر من عنده. فأشرقت شمس الحق ساطعة مبددة ركام أكاذيب غمام الاستبداد من المشرق للمغرب لتنقلب الموازين ويصبح الرهينة راهن بقوة لم تضاهى من قبل لتغاير كل أضغاث أحلام الطغاة.
نعم قد مات الكبار يا (غولدا مائير) لكن لم ينس الصغار بل تحولوا من أشبال مستضعفين في الأرض يحبون تخبطاً في دروب الحرمان لأسود عاتية تصول و تجول في عقر ما احتل من ديار يفرضون سيطرتهم عليها مجدداً آزرة حناجرهم بالذكر ورافعة أكفهم رايات النصر لينبعث للحياة من جديد ما اندثر من أمجاد العزة والشموخ التي كنا فقط نستذكرها بين الفينة والأخرى في كتب التاريخ.
دخلت الحرب في هدنة مؤقتة رضخ فيها الكيان الغاصب لإملاءات وشروط لم يقبلها من قبل في محاولات يائسة من قادته لاحتواء ولملمت أذيال خيباتهم المتكررة في تحقيق أي مما تبجحوا فيه من سيطرتهم وسحقهم للمقاومة الفلسطينية في غزة بعد ما أنهكوا في حرب لم يخوضوا لها مثيلاً جمعت ما بين التخطيط العسكري الاستراتيجي السياسي والإعلامي الفلسطيني الفائق الذكاء الذي أفقدهم صوابهم وحقق مكاسب نوعية أرعبت أوصالهم على عدة أصعدة برغم كل التوحش الصهيوني وما اقترفه من مجازر بشرية ودمار غاشم لمدينة غزة.
لتأتي عملية تبادل الأسرى حسب بنود اتفاقية الهدنة لترقب أنظار العالم بتغطية إعلامية غير مسبوقة الإفراج عن النساء والأطفال في قطاع غزة بمظاهر تكاد تكون أقرب لوداع أحبة على مفترق طرق حتمية وليس اطلاق سراح أسرى حرب دامية حيث تجلت الأخلاق الاسلامية الرحيمة في التعامل الأمثل الذي عاشه كل من أفرج عنهم من نساء وأطفال من حيث الاهتمام باحتياجاتهم الشخصية وسلامتهم الصحية والنفسية والحفاظ عليهم وعلى مقتنياتهم قدر الإمكان في ظل الأوضاع التي عايشوها جميعاً.
فكانت الصفعات المدوية المتتالية تتهاوى على وجوه قادة الكيان الصهيوني الذي لم يتوقع أن يتصدر الإعلام العبري والعالمي نقل هذه الصور ورسائل الشكر الموجهة من الأسرى أنفسهم لأفراد المقاومة الفلسطينية ووداعهم حتى بتقبيل رؤوسهم عاكسين امتنانهم لحسن المعاملة والأخلاق الاسلامية التي لم يختبروا نظيراً لها ولا حتى من أبناء جلدتهم. بالإضافة لاختيار المقاومة لتسليم الأسرى في ساحة فلسطين وسط شمال غزة بجانب نصب يد المقاومة فيها وبين جموع غفيرة من أهل المدينة مما كان بمثابة دحض للادعاءات الصهيونية بالتوغل والسيطرة على شمال قطاع غزة و خلوه من السكان والمدنيين.
بالمقابل أفرج الكيان الصهيوني عن الأسرى من النساء والأطفال الفلسطينين في ظروف ارهابية وتعامل لا أخلاقي ولا إنساني وصل بهم لدرجة منع أهاليهم من اتخاذ أي مظاهر للفرح أو الاستقبال الذي يليق بالناجين من براثن سجونهم لترصد أعين الاعلام العالمي مضايقاتهم وحجبهم للمراسلين والصحفيين من محاولات التغطية أو الحديث مع المفرج عنهم من الأسر الصهيوني تكميماً لأفواه الحقيقة عن ما عاناه الأسرى الفلسطينين من تنكيل تعذيب وامتهان لكافة حقوق الإنسان في السجون الإسرائيلية مما يبرهن أكثر فأكثر عن مدى فظاعة جرائم الاحتلال و وحشيته المطلقة.
الحرب سجال وأيامها دول وما أظهرته المقاومة الفلسطينية في هذه الحرب الأخيرة على عدة محاور أطاح بالعديد من صروح خيال الكيان الصهيوني المشيدة بحفنة من ادعاءات واهية وأكاذيب مختلقة حيث أن حجم الخسائر المعنوية والاعلامية الناتجة عن هذه الحرب دمرت كل ما أنفقت عليه الصهيونية العالمية من ثروات في سبيل بناء صورتهم المثالية على مر السنين مما يكاد يضاهي حجم الخسائر المادية التي يتكبدونها حالياً.
وقد يكون إدراك القيادات الإسرائيلية لهذا الواقع بإلإضافة لمخاطر أعظم ناتجة عن أسر ضباطهم وجنودهم حدا بهم لتفعيل بروتوكول هانيبال (وهو إجراء يتبعه جيش الاحتلال لمنع خطف الجنود وهو يعتمد على مبدأ أن الجندي الميت أفضل من الجندي الأسير). بإلاضافة لترويج مفهوم متلازمة ستوكهولم (رابطة الأسر) كمحاولة أخرى لتبرير ما ظهر من امتنان أسراهم اتجاه المقاومة الفلسطينية لكن للآن كل محاولاتهم و تبريراتهم تبوء بالفشل الذريع أمام الحنكة و التكاتف النوعي المقاوم والشعبي المدعوم محلياً إقليميًا وعالمياً بشكل غير مسبوق عبر تاريخ الصراع الفلسطيني الصهيوني.
لكن برغم هذا الانتصار النوعي للقضية الفلسطينية في هذه المرحلة إلا إن الفرح قد لا يجد سعة كافية في القلوب التي أثكلها الحزن على آلاف الشهداء الذين قضوا تحت الدمار الذي سببه الكيان الغاصب المسعور في هذه الحرب وما خلا قبلها من عقود ليبقى حجم الألم أعظم من حجم القلم للتعبير عن كل هذا الظلم الذي يسود العالم بانتظار عدالة الرب فوق البشر والأرض. والله دوماً من وراء القصد