«إذا تلا الناس أشعارا على وطن .. فقد تلونا على أوطاننا دمنا»
في الثامن والعشرين من تشرين الثاني من العام 1971، استشهد في القاهرة، دولة المرحوم وصفي التل، غدرا من وراء ظهره، بأيد رخيصة قذرة، حاقدة وسوداء، أثناء مشاركته في اجتماعات مجلس الدفاع العربي المشترك؛ باعتباره، يوم ذاك، رئيسا للوزراء ووزيرا للدفاع، فارتفع الرمح الأردني، (أخو عليا)، شهيدا حيا، وشاهد صدق على سقوط المتآمرين والجبناء.
***
مثّل وصفي التل نموذجا رائعا في الجرأة، والشجاعة الأدبية والمادية، وشكّل مثالا متميزا في الحس العالي بالمسؤولية، مما جعله محل الثقة المطلقة من المرحوم الملك الحسين بن طلال، ومن المواطنين الأردنيين الذين رأوا فيه مثالا ناصعا للرجولة والشجاعة، والعفة والنزاهة، ونظافة اليد، وطهارة الجيب والسلوك، ونقاء الضمير والمعتقد.
***
تميز المرحوم الشهيد وصفي التل، بإيمانه العميق بضرورة العمل العربي المشترك، وبنضاله منذ بدايات شبابه في سبيل القضايا العربية عموما، والقضية الفلسطينية خصوصا التي كان يعتبرها قضية العرب الأولى والأهم. وظل مؤمنا بضرورة العمل والإعداد لمواجهة الأخطار التي تواجه الأمة العربية، وخاصة الخطر الواقع على فلسطين وشعبها.
وعلى المستوى المحلي، آمن وصفي التل بجملة من المبادئ التي جعل منها نهجا للحكم الرشيد والإدارة الحصيفة، من أبرزها ربط المسؤولية بالمساءلة، وتحفيز الإمكانات المؤدية إلى دولة الإنتاج والاكتفاء؛ من خلال إطلاق العديد من المشروعات الاقتصادية والحيوية، ومن خلال تحفيز طاقات الشعب الكامنة في أريافهم وبواديهم؛ وتوفير السبل المؤدية إلى رفع إنتاجيتهم ومستوى معيشتهم، مما لا يمكن حصره في هذه السطور.
وباختصار، لقد شكل وصفي التل في حياته واستشهاده قصة رجولة وبطولة، من حق الأردنيين والعرب المنصفين أن يقـدّروها، ويفخروا بها؛ فقد كانت فلسفته في الحكم، والسياسة، والإدارة، والحياة، تقوم على ثنائية، فحواها:
قصتُنا الحـصادُ والسّهَرْ
والقمـحُ والريـاحُ والرمـاحْ
فـساعِدٌ يستنبتُ الثّمَرْ
وساعــدٌ يُـشَرّعُ السلاحْ.
***
مما لا يتنبّه إليه كثيرون، أن (وصفي التل) اغتيل ثلاث مرات. في المرة الأولى اغتالته الفئة الباغية من المرتزقة والخونة والمتآمرين والحاسدين، يوم أطلقوا رصاصهم اللقيط عليه.
وفي المرة الثانية، اغتالته فئة المحبين عن جهالة منهم بفكره، وسيرته ومسيرته ومنهجه، وعن إغفالهم لحركة الزمان، وصيرورة المجتمع، وطبيعة الظروف التي ظهر فيها (وصفي) على مسرح المشهدين: السياسي والإداري في الأردن.
لقد صوّرته فئة المحبين عن جهالة: إقليميا ضيق الإقليمية، عدوّاً لكل ما هو غير أردني، وتوهّموا مُخطئين إلى حد الخطيئة أن ذلك سرّ عظمة (وصفي)، ومكمن تميزه، وأن إلصاقهم ذلك به وبشخصيته، وإن كان كذبا وزورا ـــ يشكل مساهمة منهم في رفع مكانته العالية أصلا، والتي ليست بحاجة إلى خرافات وأكاذيب ساذجة.
وقد دفعهم انحراف فهمهم للرجل إلى المراوحة بين أمرين غير مُـنْـتجـيـْن، إنْ لم يكونا ضارّيْـن كل الضرر. أولهما الاكتفاء بسرد القصص والحكايات الصادقة حينا، والمكذوبة المختلقة حينا آخر. وثانيهما الاكتفاء بالندب واللطم والبكاء عليه فيما يصطنعون من مناحات في ذكرى استشهاده.
وما درى هؤلاء أنهم، بذلك، قد حولوا ذكرى هذا الرجل العظيم إلى مجالس عزاء: يتبارى فيها البكّاؤون الكَـذَبـَة في إظهار حبهم له وللوطن الذي عمل من أجله، بدلا من أن يستنّوا بسنّته في السلوك النظيف القويم، أو يستلهموا تجربته في الإدارة والسياسة؛ لتكون حافزا للبحث عن عشرات من مثله، وتهيئة الظروف لهم ليؤدوا أدوارهم في أزمنة متجددة، لها شروطها الموضوعية المختلفة، بالتأكيد، عما كانت عليه في زمان وصفي.
أما الفئة الثالثة، فقد اغتالته عندما توهّمت صِدْقَ دعوى الفئة الثانية، ولسان حالها يقول: من فم محبيك أدينك.
فهل رأيتم، بالله عليكم، رجلا يتم اغتياله ثلاث مرات؟ ويستشهد ثلاث مرات؟ لا لذنبٍ جناه، بل لجهلٍ به ممن ادّعى حبه، وممن حسده وعاداه؟
***
لو أردنا أن ننظر إلى (وصفي التل) كرجل إدارة عامة وسياسة، لوجدنا أنه كان ابنَ ظروفه المحيطة، وابنَ بيئته السياسية والاجتماعية التي هي، بطبيعة الحال، بيئة الأردن، وظروفه في تلك الحقبة من الزمن.
ولعل ذلك يدفعنا إلى التساؤل: لو أن (صفي) عاد إلى الحياة من جديد في الثلاثين سنة الماضية، واستمر حتى اليوم، فهل سيكون أداؤه السياسيُّ والإداريُّ الأداءَ ذاتَــه الذي كان عليه سابقا؟ وهل سيحظى بالشعبية والرضا ذاتِهما اللذين اكتسبهما بعد استشهاده؟
هل مطالب الشعب الأردني واحتياجاته التي كانت في أيام وصفي، هي المطالب والحاجات ذاتها اليوم، أو في الثلاثين سنة الماضية؟
هل الولاية العامة لرئيس الحكومة في تلك الأيام هي الولاية ذاتها في هذه الأيام؟
أسئلة كثيرة يمكن أن تطرح في هذا السياق، وكل الإجابات عنها تؤكد أن الزمان لم يعد الزمان نفسه، وأن المؤثرات والمعيقات والتدخلات جـدّت واستحدثت بعد أن كانت معدومة، أو شبه معدومة.
***
ولأن الإنسان لا يحاسب إلا على ما فعل ضمن ظروف بيئته، على تعدد أشكال هذه الظروف وأنواعها ــــ فما علينا إلا أن نقول:
رحم الله (أخا العلياء)، وصفي التل، وحيّا الله أبناء الوطن الذين قضوا، أو ما يزالون قابضين على جمر عروبتهم، عربا عربا، وأردنيين نشامى، ولسان حالهم قول القائل:
«وما هيَ إلا وقفةٌ نحنُ أهلُها
وساعةُ صبرٍ للمنايا نُطيلُها
ونخرجُ منها عالياتٌ جباهُنا
وللموتِ فينا عينُ خوفٍ يُـجيلُها
فقلْ للتي عيّتْ عياءً بحقدِها
فجاشَتْ سراياها ودقّتْ طُـبولُها
بأنّا بنو أرضٍ إذا عـزّ ماؤها
سَفَحْنا دمًا حتى يُروّى مَحيلُها».