مدار الساعة - كتب: الخبير والمحلل الإستراتيجي في السياسة والإقتصاد والتكنولوجيا م. مهند عباس حدادين
بعد أن أقر مجلس الوزراء الموقر مشروع قانون الموازنة العامة للسنة المالية 2024 والتي سيتم إحالتها إلى مجلس الأمة , لا بد أن نوجه الشكر والتقدير لكل من عمل على هذه الموازنة في هذه الظروف الصعبة التي نمر بها والتي إنعكست سلباً على وضعنا الإقتصادي من شُح الموارد وتحديات غلاء الأسعار والفقر والبطالة وإرتفاع خدمة الدين وكُلَف التمويل المرتفعة وغيرها.
من قراءتي الأولية لهذه الموازنة فإنها تشبه سابقاتها , أو على أقل تقدير الموازنات الثلاثة السابقة لنفس الحكومة وهي عدم رفع الضريبة وبعض من المؤشرات الإيجابية وهذا يُحسب لهذه الحكومة, وما شد إنتباهي هذه المرة أن المتغيرات التي حصلت نتيجة التضخم العالمي ورفع الفائدة على الدولار وإنعكاساتها علينا, وخصوصاً أن دائرة ضريبة الدخل والمبيعات جاءت لتسجل مكاسب لتصب في زيادة أرقام الضريبة المحصلة والتي زادت من الإيرادات لصالح الخزية والموازنة , فأرقام الضريبة المحصلة لهذا العام 2023 والتي لم ترفعها الحكومة, لكن واقعها يشير إلى إرتفاعها وقد كان لها أثراً مباشراً على نسبة النمو في المجمل العام, فإرتفاع الإيرادات الضريبية لهذا العام لم تأتِ نتيجة زيادة في النشاط التجاري والذي يؤدي إلى زيادة في الأرباح والتوسع في المشاريع وزيادة التوظيف وغير ذلك, هذه الزيادة جاءت من عِبء تحمله المواطنون والتجّار والشركات والمصانع ومقدمي الخدمات وغيرهم وبالتالي أثر على النمو الإقتصادي.
وللتوضيح سأسوق مثالاً للتبسيط يبين التفاصيل بالأرقام, نفرض أن سلعة معينة كان ثمنها قبل بدء سلسلة رفع الفوائد والتضخم العالمي هو 10 دنانير, ونتيجة للتضخم وغلاء أسعار السلع وأسعار مواد الخام في بلد المنشأ وأسعار الشحن والخدمات اللوجستية أصبح سعرها 12 دينار وهذا السعر بدون أي ضريبة, فلو فرضنا أن الضريبة المحصلة على ال10 دنانير لهذه السلعة 16% فإن المواطن كان يشتريها ب 11.6 دينار, بتحصيل ضريبي بلغ 1.6 دينار, أما بعد رفع الأسعار العالمية سيصبح سعرها بعد الضريبة 13.92 دينار, والضريبة التي فُرِضَت عليها ستصبح 1.92 دينار أي بزيادة قدرها 0.32 دينار عن ما كان يدفعه المواطن سابقاً, يعني بإختصار إن التضخم العالمي وزيادة الأسعار ستزيد من قيمة الضريبة عليها ولن تكون ثابتة 16% , فهي بهذه الحالة ستصبح 19.2% , وهذه الضريبة تحملها المواطن إضافة إلى تحمله إرتفاع سعر السلعة في بلد المنشأ أو الإرتفاع في مدخلات الإنتاج للسلعة المحلية.
وهذا بطبعه سيؤدي إلى تقليل كميات الإستهلاك من المُنتجات والسلع والخدمات وخصوصاً إذا كان المُنتَج محلياً لإرتفاع كلفته الإنتاجية , وكذلك الحال الذي ينطبق على مقدمي الخدمات , وبالتالي سيقلل من إنتاجية السلع المحلية لضعف القوة الشرائية لزيادة سعرها, ويؤدي إلى عدم التوسع بالمشاريع أو فتح مشاريع جديدة وربما إغلاق مشاريع قائمة سواء كانت مشاريع إنتاجية كالمصانع أو خدماتية أو تجارية , وبالتالي سيكون هناك زيادة في البطالة وعدم تحقيق النمو المطلوب وربما تتحول الحالة إلى ركود , ناهيك عن التناقص من قيمة التحصيل الضريبي.
فالمبالغ الضريبية التي حُصّلت عام 2023 كان معظها نتيجة للمعادلة السابقة , ولا نُنكر في هذا السياق الدور المتميز للحكومة ودائرة ضريبة الدخل في مكافحة التهرب الضريبي والتسويات الضريبية وإستخدام تقنيات الذكاء الإصطناعي بذلك , فالمبلغ الإضافي الذي حصلته دائرة ضريبة الدخل والمبيعات نتيجة التضخم العالمي وإرتفاع الأسعار لهذه السنة يُقدَر من 300- 400 مليون دينار ,فلو تم عكسه على الصناعات والخدمات الوطنية , لكان دافعاً قوياً بإنعاش السوق المحلي المتأرجح , وكذلك لدعم الصناعات الوطنية في ضوء حملة المقاطعات للبضائع الأجنبية , وبالتالي سيتحسن سعر المُنتَج المحلي لينافس بقوة المُنتَج المستورد, وقد نعكسه بالضريبة على أسعار الطاقة المُباعة للمصانع والشركات الخدماتية والتجارية وغيرها , وكذلك على مدخلات الإنتاج من مستوردات تدخل في التصنيع الزراعي والغذائي والصناعات التعدينية والملابس والتكنولوجيا ومستلزمات الحياة وغيرها, وبالتالي فإن قيمة المستوردات ستنخفض وستزيد قيمة الصادرات بعد دعمها ومنافستها للمستورَد , والتي بدأت تزيد عن نصف قيمة الواردات لتتخطى 6 مليار دولار سنوياً ونحن بحاجة لإدامة هذا الزخم التصاعدي في الصادرات, والذي قد يعوض ما سيتم ضخه من الموازنة لدعم الصناعات المحلية في حال قرر صانعي القرار المالي ذلك, فالخشية من عدم التمكن من تحصيل الإيرادات المتوقعة وبنفس الوقت تكون صناعتنا المحلية والشركات الخدماتية والتجارية وصلت إلى نقطة اللاعودة في إستمرارية نشاطاتها وبالتالي تكون مخاطر الأثر السلبي لذلك مزدوجة .
إن المتغيرات الإقليمية والعالمية ستلقي بظلالها الإقتصادية على منطقتنا من حرب غزة وصراعات الدول العظمى لتمويل الحروب , وهذا سيجعل الدول المانحة تقلص من مساعداتها لنا , وكذلك التمويل لمشاريعنا الإستراتيجية خصوصاً في الطاقة والمياه (الناقل الوطني) والإستثمار في التنقيب عن الثروات الطبيعية المتنوعة , إضافة إلى إحتمالية تأثر الحصول على السلع الإستراتيجية , مما قد يزيد من سعرها ,أو يكون الدخل المتوقع من نشاط تجاري أو خدماتي أو سياحي أقل من المتوقع في العام القادم نتيجة الظروف السياسية والإقتصادية الإقليمية والعالمية, وهذا يسترعي أن يكون هناك بند في الموازنة للظروف القاهرة, كون موازنة 2024 لم تراع الظروف والمتغيرات الحالية وبُنيت على توقعات مثالية لتحقيق الإيرادات المطلوبة.
لذلك يجب تكاتف القطاع العام مع الخاص وأن يكون هناك إصدار لسندات محلية يتم شرائها من المدخرين والذين لديهم ودائع بنكية من أجل دعم هذا البند , كون الحكومة ليس لديها القدرة المالية لتغطيته.
في النهاية إن أدوات الإقتصاد مرتبطة ببعضها جميعاً , فالإقتصادي والمالي البارع الذي يراعي جميع الأدوات في ظل المتغيرات الإقليمية والعالمية السياسية منها والإقتصادية ويعطي لكل منها وزن, لتكون محصلتها جميعاً هي التي تُقدم النتائج المطلوبة وتحقق نمواً إقتصادياً صحيحاً ومطلقاً , ينعكس بالتدريج على حياة المواطن .
mhaddadin@jobkins.com