ثمة قلق أردني من اتساع العدوان على قطاع غزة ليشمل الضفة الغربية، وربما انتقاله إلى حرب إقليمية.
هذا قلق طبيعي، وفي مكانه، فأي عدوان على الضفة الغربية يماثل العدوان على القطاع سيحمل في طياته مخاطر قد ترقى إلى تهديدات وجودية على الأردن الذي يدرك أمرين:
أولًا: الأردن في الذهنية الصهيونية وطن بديل، وثانيًا: الائتلاف الحكومي الصهيوني الحالي يميني متطرف بامتياز وهو الحامل لمشروع ضم الضفة الغربية إلى الكيان.
من هنا، وعلى أساس إدراك المخاطر تدفع عمّان بثقلها السياسي والدبلوماسي، وتنسق أوراقها وتبرمجها، في سياق إقليمي ودولي، لوقف العدوان على القطاع ومنعه عن الضفة الغربية.
أي أن حسابات الأردن تقوم على مواجهة ومنع أي مخطط إسرائيلي يستهدف تهجير الغزيين من القطاع كي لا يجد نفسه مضطرًا إلى مواجهة ذات الحال في الضفة وعلى حدوده.
ما سبق مفهوم تمامًا، لكن نأتي الآن إلى سؤال مفصلي يفترض أنه على الطاولة ويناقش في دوائر ضيقة.. وهو: إلى أي حد تعتبر الضفة الغربية خاصرة رخوة للأردن..؟
الجواب؛ إذا ما قيس واقع الضفة بواقع قطاع غزة سيظهر الفارق بلا التباسات، الوصول فيه إلى استنتاجات وخلاصات لا بد أن يساعد الأردن في بناء مقاربة تقدر طبيعة المخاطر وكيفية مواجهتها..
وبعض هذا الفارق بين الضفة والقطاع هو التالي:
أولًا: بخلاف قطاع غزة، ليس لأي مقاومة واسعة في الضفة الغربية أي عمق جغرافي أو اجتماعي حقيقي، بمعنى أن المستعمرات والبؤر الاستعمارية والحواجز المنتشرة بكثافة في الضفة أدت إلى تقطيع أوصالها وتحويلها إلى "كنتونات" يسهل محاصرتها والسيطرة عليها.
هذا أفقد المقاومين في الضفة ميزة الجغرافيا التي كان يمكن الاستفادة منها للتخفي والكر والفر عند الاشتباك مع الاحتلال، فالأخير يستطيع التحرك بالسرعة والسهولة الكافيتين لمجابهة أي مقاومة حقيقية وفعالة قد تنشأ وتتولد في الضفة.
كما لا تبرز في الضفة حاضنة اجتماعية مقاوِمة واسعة (ولهذا أسباب يمكن الإشارة إليها لاحقا).. لهذا، ومع غياب العمق الجغرافي فإن المقاومة في الضفة الغربية فقدت شرطين أساسيين وضروريين لتولد مقاومة ممتدة قادرة على الاستمرار والثبات، ومجابهة التهجير.
ويمكن عند مراقبة ما يجري في الضفة ملاحظة أن المقاومة ليست أكثر من جيوب صغيرة، وعلى رغم أهميتها وقيمتها، لكنها تبقى محصورة وتأثيراتها محدودة لا تحدث الفرق اللازم، وتتركز في مخيم جنين ونابلس وبعض المناطق الأخرى.
ثانيًا: إضافة للبعدين أو العمقين الجغرافي والاجتماعي غير المتوفرين، كل مناطق الضفة مستباحة لجيش الاحتلال وقواه الأمنية تدخلها متى وكيفما شاءت، وتقتل وتعتقل من تشاء، فهي منذ "طوفان الأقصى" اعتقلت ما يزيد عن ألفين من أبناء الضفة، وتحمي اعتداءات المستوطنين وانتهاكاتهم المستفزة في الضفة.
بالمناسبة، عندما وقعت اتفاقية أوسلو عام 1993 كان عدد المستوطنين في الضفة نحو مئة ألف مستوطن، أما الآن فجاوز تعدادهم أكثر من 700 ألف مستوطن يقطنون 145 مستوطنة، و170 بؤرة استيطانية.. ولكُم أن تتخيلوا أثر ذلك في جغرافية الضفة إذا ما أضفنا القواعد العسكرية ونحو 600 حاجز متنوعة الأشكال والمهام.
هذه واحدة من أهم العوامل التي تمنع تولّد مقاومة وازنة ومؤثرة في الضفة بخلاف قطاع غزة الذي صحيح أنه محاصر منذ ما يزيد عن 17 عاما، لكنه لا يعاني في داخله من المستوطنات والحواجز ويمكن للمقاوم أن يتنقل من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه بسهولة ووسط حاضنة اجتماعية داعمة.
ثالثًا: لعبَ التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية و"إسرائيل" في كل الأوقات دورًا إيجابيًا جدًا لصالح الاحتلال، وسلبيًا جدًا حيال المقاومين في الضفة، وبدا وكأن اللجنة المشتركة للتنسيق الأمني هي الوحيدة الفعالة في كل منظومة العلاقات بين السلطة و"إسرائيل".
وإذا ما أضفنا طبيعة نشاط أجهزة أمن السلطة للمشهد، وبلغة أدق طبيعة دورها، فالأمر يزداد تعقيدًا ويحول دون أي فرصة لبروز مقاومة في الضفة، فالفعل الأمني هناك لا يقوم على حماية أبناء الضفة بقدر التصدي لهم التزامًا بإطار التنسيق الأمني المثبت في اتفاقية طابا 1995 و"وثيقة تينت" عام 2022.
رابعًا: أخطر ما فعلته اتفاقية أوسلو أن أنهت ما كان يسمى "اقتصاد المقاومة" أو "الاقتصاد المقاوم"، بربطها أبناء الضفة، وشبابها تحديدًا، بوظائف سواء في مؤسساتها الأمنية أو الخدمية، وهؤلاء، أغلبية كبيرة منهم، أصبحوا أسرى رواتبهم وامتيازاتهم ورفاهيتهم.
أي؛ انحصر تفكير الذين كانوا مقاومين، أو مشاريع مقاومين للاحتلال بالقلق على فقد رواتبهم ومصادر عيشهم، وهو ما يعني عمليًا، أن الراتب والامتيازات استخدمت وسيلة تدجين وإفراغ للمحتوى المقاوم من العقول والقلوب، فإما تقاوم وتجوع أو تصمت وتتعايش مع منطق السلطة والاحتلال.
ولهذا، بطبيعة الحال، انعكاساته العميقة على المجتمع الذي تم، أيضًا، العمل على مسخ وعيه وقناعته والتلاعب بهما للقفز عن مفاهيم المقاومة وشروطها ومتطلباتها، والأهم القفز عن الحاجة إليها لتحرير الأرض وإقامة الدولة.
خامسًا: ساهم أيضا في التأثير في الإنسان الفلسطيني بالضفة، أن السلطة الفلسطينية صممت استراتيجيتها منذ البداية على أساس الحلول السياسية للقضية الفلسطينية، واستبعادها كليًا خيار المقاومة العسكرية لصالح ما أسمته خيار المقاومة السلمية.
وهو خيار ثبت فشله وعدم جدواه، فهو لم يأت بالدولة رغم أن اتفاقية أوسلو نصت على إقامتها بعد خمس سنوات من توقيعها، أي كان يفترض أن الدولة الفسطينية قامت عام 1998.
سادسًا: تجسس "إسرائيل"، بكل الأشكال والأنواع، بشريًا وتقنيًا، على فلسطينيي الضفة الغربية أسهل بكثير من التجسس على فلسطينيي قطاع غزة.
والمعنى أن نطاق أي تفكير أو نقاش في الضفة الغربية بفعل مقاوم جدي وحقيقي وممتد وواسع، ونطاق الحركة الميدانية محدودين للغاية، لأن كشفه ورصده سهل والتحرك ضده أسهل.
سابعًا: خلقت أوسلو طبقة سياسية واجتماعية مرتبطة بها ومستفيدة منها، أي مرتبطة بالاحتلال، ولن أقول متحالفة معه، وهذه الطبقة لن تتسامح أو تسمح لأحد بهزها أو نسفها كي تحافظ على مصالحها ومكاسبها.
أمام هذه الأسباب، وغيرها، يمكن الاستنتاج أن ظروف وبيئة التهجير من الضفة الغربية إلى الأردن متوافرة وتفعيل "إسرائيل" لخطتها بشأنها ممكن، بخلاف الواقع والظروف في قطاع غزة الذي نجا بنفسه من هكذا بيئة وهكذا ظروف.
فالناظر إلى القطاع يلحظ أن مقاومة وشعب غزة يجابهون بذاتهم التهجير، وكأن القطاع يقوم بذلك نيابة عن مصر، إلى الآن على الأقل، يدعم ذلك أن واقع القطاع، اجتماعيًا وجغرافيًا ومقاومةً وسياسيًا، مختلف عنه في الضفة الغربية.
ما أريد أن أختم به هو، بما أن مصر لم تضطر، للآن، إلى التدخل الميداني في القطاع لمنع التهجير، فأهل القطاع تكفلوا بذلك.. فما هي حسابات الأردن وتحسباته لو أن "إسرائيل" فعلت خطة التهجير في الضفة، خاصرتنا الرخوة؟ كيف لنا أن نجابه ذلك؟ وأين نجابهه؟ وعلى أي نحو..؟