إننا نشهد ثانيةً ظهور مقولة "الشرق الأوسط الجديد." لعلكم تذكرون أن خطاب نتنياهو في الأمم المتحدة حول ممر اقتصادي يعبُر الشرق الأوسط ليربط الهند بالمملكة العربية السعودية بالأردن وإسرائيل وأوروبا. هذا الممر عندما يدخل حيز العمل سيساعد السعوديين والأهم من ذلك إسرائيل والولايات المتحدة ولو لأسباب مختلفة. سوف يوفر لأميركا وسيلة تجارية للتبادل التجاري في مواجهة تحالف بريكس (BRICS) الذي يضم الهند وروسيا والبرازيل وجنوب افريقيا مفتوحٌ لأعضاء جدد وطريق الحرير الصيني الشمالي. هذا التحالف يهدد بتقزيم القوة الاقتصادية الأمريكية في غضون السنوات الــ 50 المقبلة إن لم يكن قبل ذلك.
على وقع خطى إحياء طريق الحرير، حدث مؤخراً ما يلي: صفقة السكك الحديدية بين إيران والعراق، والشراكة الاستراتيجية بين الصين وسوريا. وفي الوقت نفسه، أعادت الصين بهدوء تنشيط علاقتها مع سوريا من خلال إغاثة سريعة لإعادة الإعمار بقيمة 30 مليون يوان، والآن مع مساعدات إضافية للبنية التحتية لطريق الحرير. وبالفعل، زار الأسد الصين مؤخرا لتوقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية. الآن طريق الحرير لديه خط سكة حديد إلى اللاذقية. على أي حال، لا يزال هناك عمل يتعين القيام به في اللاذقية المعرضة لهجمات صاروخية إسرائيلية متكررة، بل نراها منتظمة.
إن قطع الغاز الإيراني عن أوروبا مع إعادة فرض العقوبات خلال إدارة ترمب قد فتح إمكانية قيام إسرائيل وأميركا لبيع الغاز إلى أوروبا. مجرى الغاز الشمالي أو "نوردستريم" (nordstream) الذي تعارض دوماً مع المصالح الامريكية مما أدى إلى تدمير المجرى بطريق هجوم مباشر على البنية التحتية الأوروبية تبعه توقيع الاتحاد الأوروبي مع إسرائيل ومصر عقودٍاً لشراء الغاز. وحالياً تقوم الولايات المتحدة بشحن وبيع الغاز في أوروبا وبسعر يساوي أربعة أضعاف سعر الغاز الروسي حيث تنجم الزيادة في السعر عن الخدمات اللوجستية وتراكم التكاليف). والدليل على ذلك ارتفاع فاتورة في أوروبا المستهلكين من 1.4 إلى 1.7 مرة.
لكن الخلفية الأكثر صلة بهذا الموضوع هي حقل ليفياثان (Leviathan) في المتوسط. فبعد اكتشاف مخزون ضخم من الغاز في عام 2010، دخلت سوريا ولبنان وإسرائيل في صراع حول حقوق الملكية. وتحملت سوريا حرباً دمرتها على اثر رفضها عرضاً خليجياً لتطوير الحقل، وتبع ذلك ما نراه من احتلال ربع سوريا و سيطرة أميركا على احتياطيات النفط والغاز هناك. لاحظوا أن إسرائيل تابعت قصف اللاذقية، ثم انفجر مرفأ بيروت الذي لم يحدث بعيداً عن أصابع الكيان. النتيجة النهائية هي جعل حيفا مركزاً رئيساً وربما وحيداً للتجارة والطاقة. وبالفعل، وتماشيا مع ممر نتنياهو الاقتصادي الجديد من الهند إلى أوروبا، تخضع حيفا لامتياز شركة (Adani) الهندية منذ العام الماضي.
في الأساس، قامت إسرائيل والولايات المتحدة بتجريف الجميع في المنطقة ومحاصرة سوق الغاز (وقليلاً من النفط). وهذا يتسق مع التطهير غير المكتمل لغزة الذي يهدف في نهاية المطاف إلى إيصال إسرائيل إلى حقل ليفياثان (Leviathan) وأيضا استكشاف الغاز الذي يعوم عليه القطاع نفسه حيث تشير التقديرات الأولية إلى أن المخزون يبلغ 1 تريليون قدم مكعب. وعلاوة على ذلك هناك خطة لحفر قناة عبر غزة تنافس قناة السويس. ومن هنا أهمية إضافية لغزة. إن المهمة الإسرائيلية ليست سهلة ومؤهلة لإشعال حربٍ على أرض فلسطين أخرى يكون الروس والإيرانيين والأتراك وربما العرب اطرافاً غير مباشرين فيها.
خلاصة القول، هذه التحركات الاستراتيجية ليست مؤكدة، لكن التفكير بها بادٍ للعيان. هذا المجال الاقتصادي المادي المقزز يبقى معقداً لكنه للأسف أكثر تأثيراً وأشد علاقة من المجالات الأخلاقية والفلسفية التي يتوه العرب في حواراتها ليل نهار بينما المال غدا في عالم اليوم الأكثر تأثيراً حتى في المجتمعات التي تبدو متدينة.