بعد مرور أكثر من شهر على حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة بكل ما انطوت عليه من قتل مروّع للأطفال، وتشريد مأساوي للسكان، وحصار همجي للمستشفيات، وتدمير هائل للمنازل وباستخفاف واضح بالأبعاد الأخلاقية وبالقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني تعالت أصوات كثيرة في العالم مُطالبةً بوقف الحرب، والسماح بدخول المساعدات الإغاثية الكافية إلى القطاع المنكوب، وقد تنوّعت هذه الأصوات بين أصوات رسمية (تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية كبيرة من أجل وقف إطلاق النار، ومطالبة أكثر من 57 دولة عربية وإسلامية بذلك)، وأصوات شعبية تمثلت في مظاهرات المواطنين العاديين الذين خرجوا في مختلف بلدان العالم (بما فيها عواصم البلدان الغربية الداعمة لإسرائيل كواشنطن، ولندن، وباريس) حيث عبّرت كلها: رسمية وشعبية عن سخطها على ما يجري واشمئزازها من استمرار وتزايده.
أجل ... برغم كل ما سبق فإنّ نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي ما زال يرفض وقف إطلاق النار بل يمعن جيشه في ممارسات لا إنسانية يعافها العقل السليم والضمير الحي فما الأسباب يا تُرى التي تدفع نتنياهو لكل هذا التصلُب والرفض؟
إنّ هناك العديد منها ولعلّ أهمها:
أولا: الرغبة العارمة لدى الجمهور الإسرائيلي في الانتقام بعد الصفعة المُهينة والقوية التي وجهتها "حماس" لإسرائيل في السابع من أكتوبر الماضي، والتي ألقت ضوءاً ساطعاً على هشاشتها الأمنية، وقصورها الاستخباري، وسُخف مقولتها بأنها تملك الجيش "الذي لا يقهر".
ثانياً: استناد نتنياهو إلى حكومة يمينية متطرفة تضُم أمثال "بن غفير" الذي يطالب بإعادة احتلال قطاع غزة والاستيطان فيه!، و"عميحاي إلياهو" الذي لا يرى بأساً في أن يتم التخلص من قطاع غزة من خلال إلقاء قنبلة نووية عليه، ويتماهى مع هذه الحكومة مجلس حرب (كابينت) فيه وزير الدفاع "جالانت" الذي لا يرى في فلسطينيي غزة أكثر من "حيوانات بشرية!" يجب محاربتها بدون رحمة، وحرمانها من أبسط ضرورات الحياة، كالمياه، والكهرباء، والوقود!
ثالثاً: الدعم الهائل المفتوح الذي تتلقاه إسرائيل من الولايات المتحدة وسائر الدول الغربية النافذة واعتبارها ما تقوم به من مقارفات وحشية "دفاعاً عن النفس"، ومن المعروف أن هذا الدعم لا يقتصر على الجانب العسكري بل يتعداه إلى الجانب السياسي حيث تغطي الولايات المتحدة بالذات إسرائيل سياسياً وتحُول دون إصدار مجلس الأمن لأية قرارات تطالبها بوقف إطلاق النار، ومن الطريف أن الحكومات الغربية لم تعد تستمع إلى أصوات شعوبها التي تخرج إلى الشوارع مطالبةً بوقف المجازر البشعة التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة المُحاصر منذُ أكثر من ست عشرة سنة!، ولعلّ من المهازل حقاً أن الولايات المتحدة التي تَعتَبر نفسها زعيمة العالم الحُر والتي هي الوحيدة التي تملك النفوذ الكافي (Leverage) على إسرائيل ما زالت تدّعم موقف نتنياهو الرافض لوقف إطلاق النار.
رابعاً: عدم توفر دعم عربي وإسلامي كافٍ لردع إسرائيل وإيقافها عند حدها، فالجهود المبذولة عربياً وإسلامياً ما زالت سياسية، ولم ترتقِ إلى الإجراءات العملية التي يمكن أن تحسب لها إسرائيل حساباً كوقف التطبيع نهائياً معها، أو حرمانها من النفط والغاز، أو سحب السفراء المعتمدين لديها (باستثناء الأردن الذي فعل ذلك)، أو إعادة النظر في الاتفاقيات الموقعة معها، ولقد عبّر عن هذا الموقف البيان الذي صدر عن القمة العربية الإسلامية الاستثنائية في الرياض والذي جاء جيداً من الناحية السياسية حيث رفض إدانة حماس، ولم يوافق على أن إسرائيل تخوض حرباً "دفاعية"، كما لم يوافق على تهجير الفلسطينيين من أرضهم، بل وطالب بأن يقوم المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق في الجرائم الإسرائيلية الموصوفة في غزة، وإذا أضفنا إلى هذا العامل العربي الإسلامي حقيقة أن القوى الإقليمية كإيران وتركيا والقوى المسلّحة المرتبطة ببعضها كحزب الله لا تجد مصلحة عليا لها في الانخراط في المعركة وتكتفي "بالإسناد والمشاغلة" فهمنا لماذا يجد نتنياهو أنه ليس مضطراً لوقف المذابح الفعلية التي يقوم بها في قطاع غزة.
خامساً: إدراك نتنياهو بأن مستقبله السياسي قد انتهى فعلاً، إذْ من المؤكد أن تتم مساءَلته سياسياً بعد انتهاء الحرب، ولذا فهو يرى أن إحرازه لنصر ما ضد المقاومة الفلسطينية يمكن أن ينقذه سياسياً، ويقلّل من تحميله المسؤولية عن التقصير الفادح الذي حصل لإسرائيل في السابع من أكتوبر.