لم يكن غريباً أن تهرع الولايات المتحدة إلى نجدة حليفتها إسرائيل بعد علمها مباشرة بالمعركة بين حماس وإسرائيل، وذلك من خلال تحريك أساطيلها وحاملات طائراتها (فورد، وأيزنهاوز) إلى شرق المتوسط لردع القوى الإقليمية التي يمكن أن تتدخل كحزب الله وإيران، ولكن الغريب حقاً، والملفت لنظر المتابع للسياسة الأمريكية أن تصل الأمور إلى درجة أن يحضر الرئيس الأمريكي "بايدن" بنفسه إلى إسرائيل لإظهار الدعم، بل وأن يشارك في مجلس "الحرب الإسرائيلي" (الكابينيت المسؤولة عن إدارة المعارك)، وأن يعلن وزير الدفاع الإسرائيلي "يواف جالانت" بعد ذلك بأنه على اتصال يومي مع وزير الدفاع الأمريكي "لويد أوستن"، الأمر الذي لم يحدث حتى في حرب أكتوبر 1973 عندما فاجأت مصر وسوريا إسرائيل بالحرب لتحرير أراضيها حيث اكتفت الولايات المتحدة حينها بالدعم المباشر، والسريع، والمؤثر.
لقد أوضحت مجريات الأحداث بكل جلاء أن الولايات المتحدة ليست حليفاً استراتيجياً لإسرائيل فقط بل هي شريك لها فعلاً في اتخاذ القرارات المتصلة بالحرب التي انطوت على ما انطوت عليه من مذابح، ومجازر، وتطهير عرقي، وجرائم حرب مخالفة كل المخالفة للقانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني وإلى درجة استفزت حتى الشعب الأمريكي نفسه حيث خرج في مظاهرة حاشدة (04/11/2023) جابت ربوع العاصمة "واشنطن" وطالبت بوقف الإبادة الجماعية التي تحدث في غزة!.
وإذا أردنا فهم هذا "التوجه" الجديد في السياسة الأمريكية التي طالما حاولت إظهار "الحياد" و"التوازن" في التعامل مع الصراع العربي الإسرائيلي فإننا نجد أن هناك عدة عوامل تقف وراء ذلك وهي:
أولاً: عنف الضربة التي وجهتها "حماس" إلى إسرائيل في السابع من أكتوبر والتي استدعت مثل ردة الفعل هذه من الإدارة الأمريكية فقد أُخذت إسرائيل على حين غرة، وخسرت أكثر من (1400) من سكان مستوطناتها فضلاً عن أسرى كثيرين من جنودها، والواقع أن الأهم من هذه الخسائر البشرية على أهميتها هو المس بنظرية الردع الإسرائيلية، وإبراز مدى الهشاشة الإسرائيلية عندما تُواجه بتخطيط جيد، ومفاجأة إستراتيجية، واستعداد عالٍ للتضحية.
ثانياً: معرفة الإدارة الأمريكية بهزال الوضع العربي فكثير من الدول العربية مُدمّرة في الواقع كسوريا، واليمن، والسودان، وليبيا، والبعض الآخر يعاني من تبعية اقتصادية أو أمنية للولايات المتحدة تكبله ولا تتيح له أية فرصة حقيقية للحركة حتى وهو يشاهد المناظر المروّعة للإبادة الجماعية التي يمارسها جيش الاحتلال. صحيح أن بعض هذه الدول كالأردن لعب دوراً سياسياً مهماً لوقف العدوان ولكنه لم يكن مؤثراً وكافياً في ضوء الموقف الأمريكي المنحاز تماماً لإسرائيل.
إنّ العلاقات العربية الأمريكية تاريخية، وتعود بعض هذه العلاقات (كالعلاقة مع العربية السعودية مثلاً) إلى ما قبل إنشاء إسرائيل كدولة في عام 1948، كما أنّ للولايات المتحدة مصالح اقتصادية ضخمة مع كثير من الدول العربية يتعلق بعضها بالنفط، وبعضها الآخر بالودائع في المصارف الأمريكية، وبعضها الثالث بصادرات الأسلحة إلى هذه الدول، ولكن كل ذلك لم يشفع لهذه الدول العربية حيث تجاهلت الولايات المتحدة - إن لم نقل استخفت- بكل هذه العلاقات والمصالح معلنةً بغير تردد انحيازها لإسرائيل واصطفافها إلى جانبها حتى وهي تخوض الحرب دون أيّ التزام بأية قوانين تقيد المحاربين، وتلزمهم بعدم إيذاء المدنيين وقطع سبل الحياة عنهم كالماء، والكهرباء، والوقود.
ثالثاً: عدم وجود قوة دولية مكافئة للولايات المتحدة تقف في وجهها وتدعّم الطرف الفلسطيني عسكرياً وسياسياً بحيث تحسب الولايات المتحدة حسابها عندما يصل الأمر بها إلى حد المشاركة الفعلية في الحرب الدائرة الآن على أرض القطاع البائس المحاصر منذ ما يزيد عن ست عشرة سنة!. صحيح أنّ هناك قوى دولية كبيرة تقف إلى جانب الفلسطينيين كروسيا والصين ولكِّن هاتين الدولتين ليستا في قوة ونفوذ الولايات المتحدة، وذلك فضلاً عن أنّ روسيا مشغولة حالياً بنزاعها المرير مع أوكرانيا، وأن الصين ما زالت قوة عالمية كامنة لم تدخل بعد إلى مسرح السياسة الدولية، وباختصار فإنّ النظام العالمي القائم على "القطب الواحد" (الولايات المتحدة) ما زال قوياً وإن كان العالم يتحرك ببطء ولكن بثبات نحو عالم "الأقطاب المتعددة".
رابعاً: تردد القوى الإقليمية المؤثرة كإيران وتركيا في دخول الحرب وذلك بسبب عدم وجود مصلحة استراتيجية عليا لهما في هذا الدخول. والواقع أنّ إيران حاولت من خلال بعض حلفائها المس بالمصالح الأمريكية (ضرب بعض القواعد الأمريكية في العراق)، والواقع أيضاً أنّ حزب الله حاول بنجاح مشاغلة بعض القوات الإسرائيلية المهمة في جبهة الشمال إلّا أنّ كل ذلك لم يكن كافياً للجم القوات الإسرائيلية المتغوّلة، والحد من الإسناد الأمريكي الواضح والصريح.