مدار الساعة - كتب: نقيب الصحفيين الاردنيين راكان السعايدة
ثمة زاوية في الصراع الدائر الآن، وعدوان "إسرائيل" على قطاع غزة، لم تُبحث جديًا وعميقًا، أو على الأقل لم يظهر إعلاميًا انها محل نقاش، وتقوم على السؤال التالي: أين مصلحة الأردن من كل ما يجري في غزة؟.
هل مصلحة الأردن في انتصار المقاومة أم انكسارها، وأي الخيارات على الدولة اتباعها في سياق إجابة السؤال، لأن لكل نتيجة، انتصارًا أو انكسارًا، تأثيرات ومآلات مختلفة، وتفرض مقاربات واشتباكات مختلفة أيضا.
سأبدأ بسيناريو الانكسار، لا سمح الله، أي سأبدأ بأسوأ النتائج لهذا العدوان الهمجي، وأضع السؤال الأردني في سياقه، كي نفهم ونقارب التداعيات على نحو منطقي ومعقول، ولنكتشف الكلف ونحددها بأوضح ما يكون.
الانكسار..
أولا: خسارة المقاومة وانكسارها يعنيان، عمليًا وواقعيًا، خسارة قوة مقاومة لتصفية القضية الفلسطينية، لأن "إسرائيل" لن تواجه بعدها في فلسطين أي نوع من المقاومة العسكرية الجدية والفاعلة.
ثانيا: ستجد "إسرائيل" أن تصفية المقاومة فرصة يمكن استثمارها، الآن أو لاحقًا، لتصفية القضية، بتفريغ قطاع غزة، كله أو أغلبه، باتجاه مصر، وتفريغ الضفة الغربية، كلها أو أغلبها، باتجاه الأردن.
ثالثا: إخراج المقاومة من معادلة الصراع يعني أن "إسرائيل" ستفرض من موقع القوة خياراتها السياسية القائمة على يهودية الدولة، ورفضها المطلق لإقامة الدولة الفلسطينية، وأطماعها في توسيع كيانها.
رابعا: سينطلق قطار التطبيع مع الدول العربية والإسلامية دون توقف، وستقفز "إسرائيل" من فوق الأردن ولن تأخذ مصالحه بالاعتبار، بل ستعمل على عزله وإضعافه والتآمر عليه.
خامسا: الأردن في الذهنية الإسرائيلية وطن بديل، وعمّان تدرك ذلك جيدا وتعيه، وأي تفريغ لفلسطين من أي قوة تقاوم منطق "إسرائيل" بهذا الخصوص يعني تعزيز فكرة الوطن البديل (الخيار الأردني) وإضعافا لعناصر مجابهته.
سادسا: سيتعاظم النفوذ الإسرائيلي وهيمنته على المنطقة، ولن يعود معنيًا كثيرًا بمصالح أي طرف، بما فيها الأردن، وسيعيد ترتيب تحالفاته الإقليمية بحيث تتحول المنطقة إلى مركز وأطراف تدور حوله وفي فلكه، والمركز هنا "إسرائيل" والأطراف الدول العربية.
تلك هي أبرز، أو من أبرز، نتائج انكسار المقاومة والتي ستحدث تغييرًا جوهريًا في شكل المنطقة والشرق الأوسط عمومًا، ستتغير مراكز الدول وأدوارها، ومكانها ومكانتها وحجم ثقلها، ونطاق تأثيرها ونفوذها.
الانتصار..
سيأتي انتصار المقاومة بنتائج مختلفة ومناقضة تمامًا لإمكانية انكسارها، وسيتغير وجه الشرق الأوسط بالضد من مصالح "إسرائيل" وطريقة إدارتها لوجودها في قلب المنطقة، وطريقة إدارتها للصراع في كل أبعاده السياسية والعسكرية.. وأبرز ذلك:
أولا: انتصار المقاومة وخسارة "إسرائيل" سيعنيان، بلا أدنى شك، أن مشروع "إسرائيل" لتصفية القضية الفلسطينية سقط وتلاشت فرصه، وستضطر من موقع الضعف، لا القوة، إلى القبول بتسويات سياسية تفضي إلى حل الدولتين.
ثانيا: لن يعود الخيار الأردني والوطن البديل مطروحًا على طاولة "إسرائيل" لإنتهاء، أو ضعف، قدرتها على إنفاذه، وجعله واقعًا، بل ستضطر إلى تحسين شروط الحياة في قطاع غزة والضفة الغربية.
ثالثا: سيتوقف قطار التطبيع، فـ"إسرائيل" الضعيفة المنكسرة لن تكون حاجة لأي من دول المنطقة، أو أغلبها على الأقل، والمطلوب هو فقط مقاومة الضغوط الأميركية بهذا الاتجاه.
رابعا: ضعف "إسرائيل" بانتصار المقاومة، سيضعف فرصة إنفاذ خططها بشأن مقدسات القدس، ويبعد خطتها للتقسيم الزماني والمكاني، ويقلل من اقتحامات المسجد الأقصى.
خامسا: ستكون هناك فرصة قوية لإضعاف اليمين المتطرف في "إسرائيل" لصالح قوى أكثر اعتدالًا، وربما يعود اليسار أقوى حضورًا بعد شبه تلاشيه، بمعنى ستظهر قوى جديدة تحكم "إسرائيل" يمكن للأردن أن يتفاهم معها في سياق رؤيته للحلول السياسية بشأن القضية الفلسطينية.
سادسا: لن تتمكن "إسرائيل" من التآمر على الأردن ودوره، ولا يمكنها تجاوزه أو القفز من فوقه وتجاهل مصالحه، ولا يمكنها أن تستمر في المحافظة على نطاق نفوذها وهيمنتها كما كانت قبل "طوفان الأقصى"، وهذا يوسع خيارات الأردن وهوامش حركته، إقليميًا ودوليًا.
الآن، المسألة أردنيًا، ليست حبًا أو كرهًا أو مشاعر محايدة تجاه المقاومة، المسألة في جوهرها مصلحة استراتيجية وجودية، وحسابات واعتبارات ذاتية وموضوعية، تأتي في لحظة فاصلة وفارقة..
وبكل وضوح، المصلحة الأردنية تقتضي ألا تنكسر المقاومة مهما كانت وجهة نظرنا بها، انتصارها وصمودها وثبات أبناء قطاع غزة سيفوت على "إسرائيل" كل مخططاتها وأطماعها، والأردن جزء، وجزء رئيسي، من هذه الأطماع.
أدرك جيدًا أن الأردن يتوافر على تقديرات وتقييمات عميقة لكل ما يجري، سياسيًا عسكريًا، وأدرك أنه يتحرك من وحي إحساسه بالمسؤولية التاريخية تجاه فلسطين وتجاه مصالح الأردن، ولهذا حركته المركزية، الآن، لا بد وأن تنصب على وقف العدوان على قطاع غزة.
وقف العدوان ومنع انكسار المقاومة وتصفيتها، وممارسة كل ضغط على أميركا وأوروبا، والاستثمار في المزاج العالمي الشعبي المتغير لصالح وقف العدوان، وتوظيفه للضغط على القيادات السياسية الغربية (أميركا وبريطانيا تحديدًا) ودفعها كي تجبر "إسرائيل" على التوقف والتعايش مع فكرة استحالة دحر المقاومة وتصفيتها.
يدعم هذا أن "إسرائيل" اليوم تعاني ارتباكًا شديدًا، سياسيًا وعسكريًا، ومشتتة الأهداف، وفاقدة للاتزان ومأزومة، لتداخل الأسباب الشخصية مع العامة في عدوانها، وسط صراع داخلي، وعدم ثقة بالقيادة السياسية والعسكرية وقدرتها على تحقيق أي نصر تستعيد فيه ما تحطم في غلاف غزة على يد المقاومة.
باختصار، السؤال كان: أين مصلحة الأردن..؟ الإجابة: مصلحتنا الاستراتيجية بانتصار المقاومة وصمودها.. هناك فرصة يجب ألا تضيع.