إلى أين تذهبين بنا يا غزة؟؟
أذكر حين نشأتُ قبل أربعة عقودٍ من الآن وتحديداً بما سُمّيَ بالعقد الذهبي، وأنا أسمع فلانًا يحلمُ بالوصول إلى أمريكا، وفلاناً يصف لنا جمال أوروبا بطبيعتها وقوانينها، وأذكر حينها كلما أردنا أن نتحدث بالسوء عنهم واجهتنا النظرات الشرسة وكلمات التوبة، وكأننا أجرمنا حين ذكرناهم، كانت كلمات التوبيخ التي نسمعها من أهالينا أكبر من مسامعنا، وكأن البنتاغون يقف على باب كل منزل وأقل ما كان يقال لنا (هو إحنا قد أمريكا؟) بمعنى أن أمريكا هي عالم وحدها، وأنها الآمر والناهي إن أرادت منّا النوم نمنا، وإن أرادت منّا الصحو صحونا، كنّا ننصت لأحاديث أهالينا نسمعهم وهم يحدثوننا عن جمالها، وأن فيها كنوزاً من المال، وأنهم يمتلكون السلاح الفتاك بمخزونه وعظمته وهم الفتوة على الجميع الدول.
وبعد ذلك يبدأ أهالينا بشرح جنة أمريكا لنا وكأنهم فعلاً في السماء وليسوا في الأرض وبأن كل من يصل سفارتها، وتعطيه الفيزا (أمه داعيتله)، بحسب تعبيرهم والمقصود أنه سيعيش في رغدٍ ونعيم دائم، جعلونا نخاف امريكا ونحن لم نرهم ونحلم بالوصول إلى بلادهم ونسعى لذلك أيضاً، أقل ما يقال لك وقتها من الأهل "فرجينا إذا كنت شاطر" أي اذهب للسفارة الأمريكية عل حظك يسطع وتسافر لتنعم برغد العيش، حتا أحيانا الله لهذا الوقت وعرفتُ أن الإعلام من الأزل كان يؤدي دوراً كبيراً في الهزائم النفسية لنا وأن المخططات والرسائل الغير صحيحة والتي صورت لنا على أنهم شيء كبير، وكان ذاته سببا في هذا التهويل والتعظيم المزيف، فأهالينا يتحدثون رغم أنهم لم يصلوا أمريكا، ولكن الكذبات كانت تصلهم لينشروها عن غير قصد بمساعدة انظمة همها رسم صورة لأمريكا على انها المخلص من خلال تناقلها لمسامعهم، فسمموا أفكارنا ونحن اطفال للأسف، أهالينا كانوا جدا بسطاء لا يعلمون شيئا سوى المثل (امشي الحيط الحيط وقول يارب الستر) كانوا حالمين أيضا؛ ومؤكد أن طفولتهم كانت أعنف من طفولتنا فهم من عاشوا النكبتين، كبرنا ولا نزال نحلم بهذا حتى إنه وصلت بنا الحال لشتم عيشتنا في بعض الأحيان والتذمر الزائد، بل تجاوزنا ذلك لننتقد حكوماتنا وعروبتنا، أصبحنا نظن أننا فعلا بلاد متخلفة، وأن أمريكا هي المخلص وأوروبا هي قمة الإنسانية، كيف ذلك؟ وكل من يسعى لها طالباً للجوء حمته، وأمنت له مسكنا ومأكلا ومالا، حتى إذا تعلم لغتهم، وأتقنها أكثر منهم، منحوه الجنسية.
ما هذا العز يا غزة؟ اخبرينا كيف لك رفض كل هذا النعيم؟
الآن فقط فهمنا أن كلمة (أوخ) التي كنّا نطلقها ونحن أطفال على أمريكا ما هي إلا (كُخ) ويأتي ذلك بفضل غزة، نعم علمتنا غزة الكثير في هذه الحرب الأخيرة؛ علمتنا أن الغرب بحكوماته وبعض من فئاته المتطرفة تدعي المثالية الكذابة، وأنهم جبناء وعبارة عن وهم، وأنهم ليسوا عظماء كما كنّا نظنهم، فرسائل أدمغتنا الوهمية صورت لنا سابقاً أن أمريكا لن تتحرك إلا إن كان الأمر في هذا العالم جللاً، ويخص أذية مجتمعات، وأن أوروبا الغربية لن تتحرك إلا أن ضاعت من بعض البلدان الإنسانية، وكان بها الظلم الفاحش قد استفحل بحق شعوبها، اليوم عرفتنا غزة أن كل هذا خطأ، وأن أمريكا والغرب ممكن أن يصرفوا المليارات ويقطعوا المحيطات تقرباً لقتل الإنسانية في عقر دارها، لا الدفاع عنها، عرفنا كيف يكون شكل الدعم الإرهابي بتصرفاتهم هذه في دعم محتل مغتصب بنى منزلاً على عظام أهل فلسطين، وعلى جثث أطفالها ونسائها، علمتنا غزة أنهم دول (فشينك) لا يستحقوا كل هذا الخوف منهم، فهم أجبن من أن نحسب لوجودهم حساباً، نعم علمتنا غزة أن الوطن غالٍ، ومن أجله فقط تبذل الأرواح والأموال، علمتنا غزة كيف يكون شكل حب الوطن بالطريقة المثلى التي تليق به وبحجمه مهما صغر أو كبر فهو كبير في أعيننا، وعلمتنا أيضاً حب أنظمتنا الوطنية ودعمها وعدم الخروج عنها والوقوف بجانبها مهما كلف الثمن، علمتنا وافهمتنا (من طلع من داره قل مقداره) علمتنا غزة أن نبقى ثابتين على الوعد والعهد في حماية راية الوطن وأن لا نبيعه بثمنٍ بخس مقابل فيزا هجرة أو غيرها إلى دول كاذبة تدعي الألوهية بتصرفاتها، وتدعي الملائكية عبر منظمات وجدت لتغطي على اجرامهم بأسم حماية الأطفال والمرأة، فهي اليوم لا تنتظر منّا الذهاب لها، امريكا والغرب هم من جاءوا لسرقة غنائم بلادنا وبحجة حماية الإنسانية هذه الغنائم التي لم نرها سابقاً بسبب التهويل الممنهج في رسم عظمة لها عبر وسائل إعلامية كاذبة جدا بقصد أو بغير قصد وبطرق مباشرة أو غير مباشرة زادت من خلالها مخاوفنا وأوهامنا سابقاً، اليوم نأمل أن نكون قد كبرنا فعلاً، وفهمنا ماذا يعني برأيهم حقوق المرأة، وعرفنا أن لا حياة للمرأة إلا إن كانت كما أرادوا هم، أو أن تموت لا بأس بهذا.
شكراً غزة، فقد علمتينا كل معاني الشرف والصمود شكراً غزة، لقد تعلمنا حتى السياسة الأدبية بأدب تصرفاتك وفهمك العميق لها شكراً، لقد وحدتِ كل شعوب العرب، وحركتِ فينا الشجن للغيرة على الوطن. شكرا لأنكم جعلتمونا نفكر في أحاديثهم المدسوسة المسمومة سابقًا وحاضراً، وأن نقارن تناقضاتهم في سرد الأكاذيب، وتخبطهم في تشكيل الجمل والمنوي فعله؛ إذ إنهم يختارون الفن في صناعة الأكاذيب لخطابات كراهية وتحريض شيطاني عدائي للعرب والمسلمين، نعم قال بايدن مرفوضاً للرئيس بوتن احتلال أوكرانيا؛ لأن بوتن رافض فكرة أن أوكرانيا أصبحت دولة، وهذا أغضب أمريكا الإنسانية برأيه لكون أمريكا لا تسمح بتغول أحد على حقوق أحد!! وتسمح بالرأي والرأي الآخر بحسب قول بايدن وبالمقابل، ومن أجل الإنسانية أيضاً مسموح لإرهابي صهيوني إغلاق غزة وحصار أهلها وقصفها وشن الحرب عليها واغتصاب حقوق أهلها وممنوع أيضا، ولن تسمح أمريكا أو الغرب بالمقابل للفلسطينيين الغزيين أصحاب الأرض الدفاع عن أنفسهم ونسائهم وأطفالهم وأرضهم المحتلة ومقدساتهم الدينية، وإلا وصفتهم أمريكا بالإرهابيين. لربما انتهز تلك الفرصة لأوجه رسالة إلى بايدن وأقول.
نحن اليوم يا فخامة الرئيس في الوطن العربي أصبحنا على ثقة تامة أن الشعب الأمريكي لديه الحس الشرفي في الإنسانية، ولكن مغشى على أعينهم بسبب أكاذيبكم المستمرة الواضحة لمن يبحث عن الحقيقة ولولا كذب إدارتكم على الشعب الأمريكي، وتخديره بالعواطف، والتي هي أيضا كاذبة مع الأسف لوجدتم يا فخامة الرئيس أفعالاً لا يحمد عقباها من شعوبكم ولرأيتم تغيراً كاملاً في المنهجية للإدارة لهذا لن نخاف أمريكا بعد اليوم، ولن نحلم للوصول لها من أجل العيش، وسندافع عن أراضينا بكل ما أوتينا به من قوة، ولن نطلب السفر لأمريكا، ولن تكون اللغة الإنجليزية اللغة العالمية، ولن نساوم في حق عروبتنا وأراضينا ودماء أطفالنا ونسائنا، وندعوكم يا فخامة الرئيس رغم تحفظي على كبر حجم هذا الاسم أدعوكم إلى أخذ دورة في بلاد العرب والمسلمين بكيفية حماية الأسر واحترام المرأة ودعم الطفل، وكيف تكون رجلاً في زمن كثرت فيه الذكور، نحن أولى منكم يا سيادة الرئيس بتأسيس ما سميتموه أنتم مؤسسات وهيئات ومنظمات حقوق الإنسان الدولية نحن أولى اليوم بإدارتها اتركوها لنا نصيحة كي لا تدور الدوائر، ولا يفيد الندم حينها.
سامحونا غزة نحن نحبكم