أتابع (وائل الدحدوح) في غزة, هذا المراسل تعب كثيرا... وهو يعرف غزة مثلما يعرف كف يده, لدرجة أنه يحدد مكان القصف, والعائلات التي تسكن في المنطقة... ويعرف أسماء الأحياء, ويعرف أسماء الشوارع...
عزيزي وائل..
حين تبث رسالتك من غزة, وتتحدث عن الأشلاء والشهداء والأطفال.. وعن المجازر التي ترتكبها قوات الإحتلال, أكون جالسا في الكرك مع بعض العجائز من العائلة.. وحين يسمعن صوتك يبدأن بالصلاة والبكاء, وأنا أصمت... خالتي تظن أني بلا شعور وتريدني أن اشاركها الدمع.. تريث يا رفيق نحن نعرف كل ذلك, نعرف أنهم يرتكبون المجازر.. نعرف أنهم بلا إنسانية, نعرف أنهم يحلمون أن يفيقوا يوما ويطلوا على الأمة من ركام غزة... نعرف كل ذلك ولكني أريد منك أمرا واحدا فقط وهو: حين تبث رسالتك فقط قل لعجائزنا في الكرك.. في الصعيد, في تلمسان.. وطب?ق, في الدار البيضاء.. قلن لهن أن النساء في غزة ما زلن يقمن بتأدية الصلاة في موعدها...
قل أيضا أن غزة تقصف, ولكن الصبر فيها أكبر من كل القذائف... أخبر الناس الذين يشاهدونك أيضا, بأن مستشفيات غزة ما زالت تستقبل النساء اللواتي يضعن حملهن ومع كل شهيد يوارى الثرى يولد مجاهد جديد, أخبر الناس يا وائل أيضا... أن الورد بالرغم من البارود ما زال يتفتح على الندى في الصباح, وأن طفلة من غزة أطلقت ابتسامة ذاك المساء.. هل تعرف كيف يقوم المجاهد بتذخير بندقيته؟ إنه دورك أيضا أن تقوم بتذخير معنوياتنا.
أريدك أيضا أن تقول للعجائز في الكرك اللواتي أعياهن الدمع, واللواتي يشاهدنك.. أن الله لا يخذل الشعب المؤمن, أخبرهن أيضا يا رفيقي أن مواقد الغاز ما زال تشتعل وتعد للمجاهدين وجبة اليوم، قل لهن أيضا أن مقاتلا من غزة ما زال يتربص وينتظر دخولهم.. لقد أقسم أن يعطب دبابة وأعد لذلك, وطلب في حال استشهد أن يدفن بجوار والده..
البحر يا وائل متعب من صبر أهل غزة, دع الملح للبحر وليس لدمع عيوننا... نحن لنا الفرح.. نعم الفرح بالنصر الذي أحرز، هم يريدون أن يشطبوا من أذهاننا تاريخ (7) أكتوبر, بكل ما يفعلونه... عد لذاك الصباح لصباح يوم النصر واجعله انطلاقتك للحديث فقط.
يا وائل.. لا ضير أن تقرأ مع كل رسالة من غزة اية من كتاب الله، لاضير أن تقول للناس: انظروا مازال هنالك الكثير من الأبراج المنصوبة في غزة, وما زالت الناس تقيم الصلاة في مواعيدها...قل لهم أيضا أن (براميل) الشطة مازالوا يغرفون منها... وقل لهم: أن الأم مازالت تستقبل الشهيد بالزغاريد, أنا لا أريد منك أن يبقى حديثك مقتصرا على الموت.. صدقني يا وائل بالرغم من حجم الشهداء إلا أن غزة هي المدينة الحية الوحيدة في هذا العالم وبقية المدن صارت مجرد ضحايا للصمت.
هذا الصباح يا وائل تناول من بلح غزة الكثير, واشرب قهوتك... واحلق اللحية, ما من داع لنموها وتسلح بالصبر فقط, وابتسم على الشاشة..غزة بالرغم من كل جراحها إلا أنها تجيد الإبتسامة.. ابتسم لأن هذه اللحظة هي لحظة صناعة التاريخ, والتاريخ لايصنع بالكذب والتدليس الذي تمارسه إسرائيل التاريخ يصنع بدم شهداء غزة, راقب.. القاتل لا تظهر طائرته ولا تظهر صورته القاتل يحلق فوق الغيم خائفا مرعوبا, ولكن الشهيد هو من تظهر صورته ويظهر دمه... وتلك حكمة ربانية مفادها: أن البشر كلهم يشهدون على دم الشهيد ويترحمون عليه ويدعون له.. كل?ا ظهرت صورة شهيد يا وائل قرأت مليون فاتحة عليه ومليون ترحم نطق عليه.. لكن القاتل تركناه لله فهو يعرفه ويعرف متى سدد القذيفة ومتى عاد.. والله منتقم جبار ولن يفلت أحد من عقابه.
يا وائل الدحدوح...
بعد أن تقرأ كلامي, تذكر أن تبث لنا ما يرفع المعنويات... وتذكر أنك الان عبر (مايكريفونك) تنقل تاريخا.. من أشرف تواريخ العرب, تاريخا أعاد للأمة وهجهها... تاريخا جعل من غزة قارة.. وليس مدينة, وجعل البحر خجلا.. أي أمة تلك التي يخجل من جبروتها البحر غير الأمة (الغزاوية).