كيف نتعامل، أقصد الأردنيين على المستويين الرسمي والشعبي، مع ما حدث في غزة، وتداعياته القادمة ؟ أكيد أن الأحساس بنشوة الانتصار، ثم صدمة ما جرى للمحتل، أيقظت فينا أحلاما مدفونة، وأثارت لدينا انفعالات مشروعة، استدعاها تاريخ طويل من النكبات والهزائم، والآمال والطموحات، وبالتالي جاءت ردود الأفعال الشعبية ممزوجة بالفرحة والبهجة.
أكيد، أيضا، أن ما ما فعلته المقاومة كان نقطة تحول مهمة، وسيكون لها ما بعدها، وقد صبت في حسابات القضية الفلسطينية أولا، وفي خزان الدولة الأردنية، كما عبرت عن ذلك مواقفها وتحذيراتها، على مدى السنوات الماضية، على الرغم من أن الكثيرين لم يأخذوها على محمل الجد.
أكيد، ثالثا، أن حسابات الموقف الرسمي تختلف عن حسابات المشاعر الشعبية ؛ الدولة تفكر بعقل بارد، وتوازن بين خياراتها واضطراراتها، وتحسب خطواتها بدقة، ثم تتصرف استنادا إلى خبراتها التاريخية، ومصالحها المتشابكة، إقليميا ودوليا، بمنطق هادئ وحازم، أو هكذا يفترض، وبالتالي فإن ردودها ستكون موزونة، بعكس ردود الفعل الشعبية التي تختلط فيها المشاعر والانفعالات بالرغبات والامنيات، وربما يتم توظيفها، أحيانا، من قبل بعض النخب في اتجاهات سياسية تصب بمصالحها، بصرف النظر إن كانت محسوبة أو غير محسوبة.
لا يمكن، بالطبع، لأي أحد أن يقلل من انتصار المقاومة، أو من هزيمة الكيان المحتل، ولا أن يصادر حق الأردنيين، وغيرهم من العرب والمسلمين، بالتصفيق لهذا الإنجاز التاريخي، لكن لابد من التفريق بين الاحتفال في سياق النشوة بالانتصار، وبين الاحتفال في سياق الفعل السياسي المفترض أن يتحرك على سكة عقلنة النقاش، وفهم الواقع واستشراف المستقبل، وتقدير المواقف والخطوات، إذا استغرقنا في المشاعر واحتكمنا لها، وأهملنا إدارة مرحلة ما بعد الانتصار، او تصريفه سياسيا في قنوات مدروسة، فمن الممكن أن يتحول الانتصار إلى هزيمة، وهذا ما يجب أن ننتبه إليه.
للتذكير، فقط، احتكمنا للمشاعر قبل 50 عاما (1973 ) فكانت النتيجة «كامب ديفيد «، ثم صفقنا لصواريخ صدام وهي تدك تل أبيب، فانتهى المطاف بالعراق لما هو عليه الآن، وتكرر ذلك مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى ( 1987) فجاءت « أوسلو»، وبعدها 30 عاما من الخيبات، وهكذا دواليك، الآن الظروف تغيرت، وعليه، لا بد ان نتعامل مع ما حدث في غزة بمنطق الفرجار السياسي المفتوح على كل القراءات والسيناريوهات والخيارات، أقصد أن نفهم الحدث بأسبابه وسياقاته، الأطراف التي شاركت فيه، والأهداف التي يسعى لها كل طرف، ثم ندرس جيدا معادلة الأرباح والخسائر، على قاعدة مصالحنا الوطنية أولا، حيث يجب أن تتقدم القضية الأردنية على أي قضية أخرى
أعرف أن لدى إدارات الدولة أسئلة كثيرة، وتقديرات للموقف، واستشرافات للمستقبل، ربما تكون غير مكتملة بانتظار أن تضع الحرب أوزارها، لكن الواضح أن السياسة الأردنية تتحرك باتجاه القضية الفلسطينية على محور دعم «السلطة» باعتبارها الممثل للشعب الفلسطيني، ولا تفكر حاليا بفتح أي خطوط سياسية مع حماس، ولا مع ايران، وهي تدرك، بتقديري، أن بؤرة ما حدث يقع في هذا المربع (حماس وإيران) وبالتالي فإن تعاملها مع ما جرى سينصرف باتجاه استثمار الفرصة السياسية للدفع نحو وقف التصعيد أولا، ثم إحياء مبادرة السلام والتسوية، الأردن يمتلك مفاتيح هذا الدور، ويمكن أن يستند إلى ما توفر من عمق عربي للقيام به، هل ينجح ام لا؟ لا أدري.
ليس لدي الأردن، الآن، بتقديري، أي تفكير بإجراء تغييرات جوهرية على مساراته السياسية، حتى بعد ما حدث في غزة، سواء تعلقت بحماس أو تل أبيب، أكيد سنشهد نشاطا دبلوماسيا في قضية تبادل الأسرى، ومحاولات لتطويق الحرب التي أعلنها نتنياهو، بموازاة استمرار المساعدات الإنسانية، واتخاذ ما يلزم من إجراءات لضبط إيقاع الشارع في المرحلة القادمة، لكن هذه المسارات قد تأخذ تحولات مدروسة فيما بعد هدوء الزلزال، أو فيما إذا توسعت الحرب وامتدت لأطراف أخرى، ومن الصعب معرفة هذه الاستدارات السياسية، الآن، أو تقدير حجمها واتجاهاتها.