أتابع ما يحدث, وأقول بملء فمي منذ العام (1973) لم تنتج الحالة العربية نصرا بمثل النصر الذي أنتجته غزة صباح أمس لحظة كتابتي هذا المقال.
بعد هذا اليوم ستتغير أشياء كثيرة في العالم, أستطيع مثلا أن أقف في مطار (هامبورغ) الألماني.. وإن سألوني عما يحدث في الشرق الأوسط سأخبرهم أن غزة تبعد عن وطني مسافة قصيرة جدا لا تتجاوز ال (80) كيلو مترا, سأقول لهم أن عشرات الالاف من أهل غزة يسكنون بيننا.. وسأقول لهم أيضا, أن صديقي أحضر لي منها (شطة)... وأحضر (فسيخ)... وكان يهاتف والدته من (تلفوني الشخصي).. سأفتخر أمام العالم كله بهذه المدينة.
بعد هذا اليوم أيضا, أستطيع أن أقف في أي جامعة بريطانية أيضا, وأخبرهم أن لدينا في عالمنا العربي ما هو أخطر وأكثر تعقيدا من إنزال النورماندي, لدينا إنزال (غزة)... في النورماندي أنزلت قوات التحالف مئات الالاف من الجنود, لكن في إنزال غزة الأمر يختلف... لأنهم أنزلوا القضية الفلسطينية والشخصية الفلسطينية والقذيفة والطلقة, على طاولة وعلى كل محفل... وقالوا للعالم كله: (نحن هنا).. بعد هذا اليوم لن يقدم الفلسطيني للعالم صور الشهداء والقصف والدمار الذي حل به, بل سيقدم للعالم صور أسراهم وقتلاهم..وصور اقتحاماته, والصور التي يذلهم بها... لن تجرؤ إسرائيل بعد اليوم أن توقع على قرار وقف إطلاق النار, بل ستجبر على التوقيع... ولن نحتاج لوسطاء, لأن الوسطاء لن يحفظوا للمهزوم ماء وجهه أبدا.
بعد هذا اليوم.. ستتغير قراءة الشاب الكوبي, لسيرة كاسترو وتشي جيفارا.. سيحاول أن يقرأ سيرة أحمد ياسين, وبعد هذا اليوم... لن يقرأ العالم ماذا قال: (هوشيه منه) عن النضال والكفاح وحرب الإمبريالية, بل سيترجم العالم خطابات وأقوال وسيرة أحمد ياسين..
بعد هذا اليوم... وفي أقسام التاريخ بكليات الاداب في جامعات ماليزيا, وأندونيسيا, اليابان وشرق اسيا.. لن يقرأ الطلبة كثيرا عن الثورة الثقافية التي أنتجها (ماوتسي تونغ).. بل سيقرأون الأنماط الثقافية والإجتماعية لشعب غزة, سيقرأون فصلا كاملا عن مخيم الشاطئ.. وربما سيتعلمون صنع (الدقة الغزاوية)... وسيحاولون أن يكتشفوا أسرار الإنسان الفلسطيني وأسرار الرمل وأسرار البلح..وأسرار الحب وأسرار النار فيها.
حتى جامعة هارفرد وأكسفورد لن يتفنن أساتذة السياسية فيها بتكليف الطلبة على أن يقدموا ملخصا لكتاب صدام الحضارات... (صموئيل هنتنغتون).. بل ستعمد هذه الجامعات لتغيير العنوان كي يصبح (صدام المخيمات)...المخيم حضارة قائمة بحد ذاتها حضارة تمثل الصفيح والإرادة والشخصية، المخيمات هي التي هزمت الإمبريالية..هزمت العجرفة، هزمت ما يسمى بالقوى الرأسمالية وأنظمة الفصل العنصري.. وسيعاد كتابة التاريخ بحيث يعرف طلبة الجامعات البرجوزاية...وأبناء مجتمعات الشركات ماذا نعني بصدام المخيمات...
بالمناسبة غزة يوجد فيها (8) مخيمات, في هذا الصدد لدي سؤال.. كم يبلغ سعر متر الأرض في مخيم (البريج).. ربما هذا السؤال سيحير شركات العقار الكبرى, وسيحير أصحاب البنوك ونظريات الإقتصاد.. لأن الأسعار هناك لا تقاس بالدولار, بل تقاس بالقضية والضمير والكرامة..والدم، هو وحده الفلسطيني الذي يشتري بالدم..فقط بالدم يشتري وليس بالدولار.
هذا الصباح ليس مثل كل صباح, طعم فنجان القهوة كان أحلى.. والسيجارة كانت في فمي تقاتل معهم, وأنفاسي كانت معهم.. والقلب كان معهم، هذا الصباح فتحت لنا غزة نافذة كي نطل عبرها على الكرامة والضمير والنصر...
سأختم مقالي بجملة, من اللحظة التي سقطت فيها بغداد عام (2003) وكل شموعي انطفأت.. هذا الصباح, سكبت غزة كل زيتها في سراجي.. واشتعلت.