مع «الانتصار» الذي حقّقته أذربيجان في عملياتها الخاطفة التي نفذتها ضد إقليم ناغورنو كاراباخ، دخل جنوب القوقاز مرحلة جديدة بل خطيرة تنذر بتطورات دراماتيكية ومتوقعة، خاصة إذا ما مضت أذربيجان بدعم من تركيا, التي هنأ رئيسها/أردوغان نظيره الأذري/علييف على «انتصاره التاريخي بما هو مدعاة للفخر»، لأنها - أضاف أردوغان- أُنجزت في وقت قصير. نقول: تُنذر بتطورات دراماتيكية وبخاصة على الصعيد الجيوسياسي وخريطة التحالفات وتوازن القوى, الذي اختل كثيراً ليس فقط منذ حرب العام 2020 التي هُزمت فيها أرمينيا, بعد دخول رئيس حكومت?ا المتأمرك/باشينيان مغامرة غير مضمونة, مدفوعًا بمخططات مُسبقة عمل عليها, لنقلِ بندقيته من كتف التحالف التقليدي والتاريخي الأرميني - الروسي، بل خصوصاً إذا ما مضى الرئيس إلهام علييف بدعم من أردوغان, للإجتياح ممر «زنغيزور» في مقاطعة سيونيك الأرمينية. ممر يربط بين مقاطعة نخجوان الأذرية بباقي أذربيجان لكنه يقع في الأراضي الأرمينية، ما يشكل لـ"إيران» رابطاً باتجاه أوروبا عبر أرمينيا. وهو أمر/إجتياح الممر تُبدي طهران إزاءه تشدداً وعدم السماح بحدوثه, تحت طائلة إشعال حرب ضد أي محاولات لعزلها وإحكام الطوق عليها في ا?جاه القوقاز. على النحو الذي ترجمته طهران بإجراء مناورات عسكرية في مقاطعتها المحُاذية لأذربيجان وأرمينيا, محمولة على تحذيرات «من إدخال أي تغيير على حدودها الدولية على أرمينيا», حداً وصل بالرئيس الإيراني/إبراهيم رئيسي في مكالمة هاتفية مع رئيس الحكومة الأرمينية/باشينيان إلى التحذير من أن (أي تغيير في جيولوتيك وحدود المنطقة يقصد ممر زنغيزور.. يُمثل «خطّناً الأحمر»).
ما علينا..
ليس تفصيلاً والحال هذه القول: أن وفداً عسكرياً «إسرائيلياً» كان زار باكو قبل 24 ساعة من انطلاق العملية العسكرية الأذرية ضد إقليم كارباخ. كما أن «أعلاماً إسرائيلية» تم رفعها إلى جانب العلم الأذري, خلال المظاهرات التي خرجت إحتفالاً بالانتصار على أرمن الإقليم واستسلام المقاتلين الأرمن.
ما يعزز الاعتقاد بأن ما يجري في جنوب القوقاز يخرج عن إطار إعادة تصويب الحدود, التي تقول أذربيجان أن الزعيم السوفياتي ستالين «عبثَ» بها, عندما ألحقَ إقليم كارباخ بأرمينيا عشرينيات القرن الماضي. ناهيك عن تداعيات الحرب «الناجحة» التي شنّتها أرمينيا عام 1992, لإحكام سيطرتها على الإقليم بل وأجزاء أخرى من أراضي أذربيجان زادت عن 9% من مساحة أذربيجان. وهو أمر رفضته باكو وعملت على تغييره, إلى ان منحها الصحافي السابق الذي وصل إلى منصبه كرئيس لوزراء أرمينيا, بعد «ثورة ملونة» لم تكن غائبة عنها اليد الاميركية, وتقصد رئ?س الحكومة الحالي/باشينيان، ما منح باكو فرصة ثمينة عندما شن عليها حرباً في 28 أيلول 2020 انتهت بإلحاق هزيمة بالجيش الأرميني, لم تنقذه من خسائر أكبر سوى روسيا, التي بذلت جهوداً مضنية كي تُوقف القتال والتوصّل إلى تسوية, أسفرت عن وجود قوات «حفظ سلام روسية» في الإقليم.
ماذا عن حرب الـ«24» ساعة الخاطفة الأخيرة؟
هي جاءت هذه المرة من أذربيجان التي أعلنتها حرباً ضد «الجماعات الإرهابية المسلحة» في إقليم كارباخ. وكان مفاجئاً أن «نيكول باشينان» أعلن تخلّيه عن أرمن الإقليم, عندما أعلنَ أن «لا علاقة» ليريفان بما يجري في الإقليم. ولم تمضِ سوى ساعات معدودات حتى استسلم مقاتلو الإقليم الأرمن. إنطلق باشينان بعدها في حملة شيطنة شعواء ضد روسيا, مُتهماً قوات حفظ السلام الروسية بـ"الفشل» في منع هجوم أذربيجان ضد كارباخ. ولم يتوقّف عند هذا الحدّ بل مضى إلى القول في تصريح يكشف من بين أمور أخرى, ارتباطه الواضح بتحالفات تم التوصل إليه? خلف الأبواب المُغلقة، إذ قال يوم الأحد الماضي في تمهيد للانسحاب من «معاهدة الأمن الجماعي» التي تربطه بروسيا وثلاث دول من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة، هي كازاخستان، قرغيزيا، طاجكستان، إضافة إلى بيلاروسيا.. قال باشنيان: إن (تحالفات بلاده الحالية «غير مُجدية»، في إشارة ضمنية إلى علاقاته طويلة الأمد مع موسكو الموروثة منذ كانت أرمينيا جزءاً من الاتحاد السوفييتي. مضيفاً: «لم تتخلَّ أرمينيا يوماً عن التزاماتها ولم تخُن حلفاءها. لكن تحليل الوضع يُظهر أن الأنظمة الأمنية والحلفاء الذين نعتمد عليهم منذ مدة طو?لة, حدّدوا لأنفسهم مُهمة إظهار ضعفنا وعدم قدرة الشعب الأرميني على أن تكون له دولة مُستقلة».
في السطر الأخير.. الخطوات التي إتخذها باشنيان, الذي بات هدفاً لآلاف المتظاهرين الأرمن الذين يواصلون التظاهر أمام مقر باشنيان محملين إياه مسؤولية ما لحق بأرمن كارباخ, بتخلّيه عنهم وإلحاق «نكبة» ثانية بهم، لن تُسعفه في تحقيق هدف الإلتحاق بالمعسكر الغربي حتى لو ذهب إلى إسبانيا والتقى الرئيس الأذري/علييف في غرناطة برعاية أوروبية. لأن حقائق الجغرافيا والتاريخ أكثر تأثيراً ورسوخاً من طموحه الشخصي, الذي لم يجن منه الأرمن.. سوى الهزائم وخسارة «وطنهم التاريخي».