لا اعرف من أين ابدأ بالحديث يا سيدي يا رسول الله في ذكرى مولدك الذي أضاء الكون بهاء وإشراقا....هل أبدأ من نبع الصدق والأمانة؟ أم أبد من خلقك العظيم الذي نشر الرحمة للعالمين؟ يا سيدي يا رسول الله إن اليراع يقف عاجزا وإن الكلمات مهما كانت بليغة لم ولن تسعفني وأنا أتحدث في حضرة نبي الرحمة والعدل والاستقامة. إن كلمات البشر كل البشر تقف متهاوية ركيكة أمام عظمة سيرة شخصيتك التي لا مثيل لها في الكون هذه الشخصية التي صاغتها يد الحكيم العليم بكل عنايتها لتكون صورة الكمال الإنساني الأمثل، ولتكون الرسالة التي حملتها رسالة الرحمة العظمى للعالمين في واقع تقر له العقول وتطمئن إليه القلوب.
والرسالة التي حملها محمد صلى الله عليه وسلم للناس كافة، رسالة كلّها رحمة، رحمةٌ في مقاصدها وتطبيقاتها ووسائلها وغاياتِها ليكون دين الإسلام العظيم متمم الرسالات السماوية وخاتمها... دين يسع الجميع وتنصهر فيه جميع القبائل والشعوب والأجناس والأعراف.
قال تعالى "وما أرسلناك الا رحمة للعالمين".
في ذكرى ميلاد سيد البشر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نؤكد أن شريعة الإسلام تهدف إلى توحيد الشعوب وإذابة عوامل التفرقة بينها، ونشر لواء الأخُوَّة والمحبَّة بين أفرادها؛ لأنها شريعة صالحة وشاملة لكل زمان ومكان، فقد جاءت بتشريع يواكب الحاضر والمستقبل، باعتبارها الرسالة التي أكمل الله بها الدين، وختم بها الرسالات، ونقلها من المحيط المحدَّد إلى المحيط الأوسع، ومن دائرة القوم إلى دائرة العالمية والإنسانية " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا "
لذلك جاءت الشريعة لتجمع بين عنصري الثبات والمرونة، ويتجلى الثبات في أصولها و كلياتها و قطعياتها، وتتجلى المرونة في فروعها وجزئياتها وظنياتها، فالثبات يمنعها من الميوعة والذوبان في غيرها من الشرائع، والمرونة تجعلها تستجيب لكل مستجدات العصر.
كما تمحورت رسالة سيدنا محمد حول مكارم الأخلاق ودارت في فلكها، حيث لخص نبينا (صلى الله عليه وسلم) أهداف رسالته الكبرى في قوله: ” إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ”.
فما الذي يرفعك عند الله؟ الخُلُق العظيم، ما الذي يعلي قدرك عند الله؟ حُسْنُ الخُلُق، ما الذي تسمو به؟ حسن الخلق، لأن الله سبحانه وتعالى حينما مدح نبيَّه الكريم لم يمدحه إلا بالشيء الذي يرفعُه عنده، إنه الخُلُق العظيم، قد يؤتى الإنسان قدرات علمية أو خطابية، أو قدرات في إقناع الناس، هذه القُدرات إن لم يرافقها خُلُقٌ، وسموٌ، وعفَّةٌ، وصدقٌ، وأمانةٌ، لا ترفع صاحبها عند الله.
الخُلُقُ العظيم هو الخير كله، هو الإيمان، هو القُرب من الله عزَّ وجل، وإذا احتفلنا بذكرى المولد فينبغي أن نتخلَّق بأخلاق النبي ونسير على نهجه ونتبع سنته، الحديث عن شمائل النبي لا تتسع له المجلَّدات، ولكن الله جلَّ في عُلاه لَخَّصها في كلمات، فقال: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾.
كيف يكون لك النبي أسوة حسنة؟ إن لم تعرف شجاعته، إن لم تعرف رحمته، إن لم تعرف عدله، علاقته بإخوانه، علاقته بجيرانه، كيف تتخذ النبيُّ أسوةً وقدوةً ومثلاً إن لم تعرف سيرته ومواقفه؟ ولو وقفتم عند مواقف النبي وسيرته موقفاً موقفاً، ومشهداً مشهداً، لاستنبطتم من مواقفه قواعد لحياتكم، مناهج في سيرتكم، منظومة قيَم تَنْظِم أعمالكم.
لقد كان صلى الله عليه وسلَّم جَمَّ التواضع، وافر الأدب، وكان يمشي هوناً خافض الطرف، إذا تكلَّم تكلَّم بجوامع الكَلِم، كان دمثاً ليس بالجاحد، ولا المهين، ولا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها. كان يؤلِّف ولا يفرِّق، سهل الخلق، ليِّنَ الجانب، ليس بفظٍ ولا غليظ. ان سيرة النبيّ تشمل منظومة قيَم كاملة. فالدعوة إلى الله لا يُصلحها القسوة، ولا الشدة، ولا الاستعلاء، ولا الكِبْر﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾.
الدعوة إلى الله تحتاج إلى خُلُقٍ حسن كي تملك قلوب الناس. سلاح الداعية إلى الله أخلاقه الحميدة، تواضعه، أمانته، صدقه. وهذا ما اكدته رسالة عمان التي اصدرها صاحب الجلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين في التاسع من تشرين الثاني عام 2004م التي تضمنت ان الدين إلاسلامي الحنيف قام على التوازن والاعتدال والوسطية والتيسير"وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً". هذا الدين الوسطي الذي يدعونا إلى الانخراط والمشاركة في المجتمع إلانساني المعاصر وإلاسهام في رقيّه وتقدّمه، متعاونين مع كل قوى الخير والتعقّل ومحبّي العدل عند الشعوب كافةً، إبرازاً أميناً لحقيقتنا وتعبيراً صادقاً عن سلامة إيماننا وعقائدنا المبنية على دعوة الحق سبحانه وتعالى للتآلف والتقوى.
والأمل معقود على علماء أمتنا أن ينوروا بحقيقة إلاسلام وقيمه العظيمة عقول أجيالنا الشابّة، بحيث تجنبهم مخاطر الإنزلاق في مسالك الجهل والفساد والإنغلاق والتبعيّة، وتنير دروبهم بالسماحة والاعتدال والوسطية والخير، وتبعدهم عن مهاوي التطرّف والتشنج المدمّرة للروح والجسد؛ كما نتطلع إلى نهوض علمائنا للاسهام في تفعيل مسيرتنا وتحقيق أولوياتنا بأن يكونوا القدوة والمثل في الدين والخلق والسّلوك والخطاب الرّاشد المستنير، ويبثوا بين أفراد الأمّة وفي أرجاء العالم الخير والسلام والمحبّة، بدقّة العلم وبصيرة الحكمة، وأن يستشرفوا آفاق التلبية لمتطلبات القرن الحادي والعشرين والتصدي للتحديات.
ولكن عذرا يا سيدي يا رسول الله هناك من خرج عن نهجك من خوارج العصر الذين شوهّوا صورة ديننا الوسطي الحنيف بفتاويهم المرجفة من جهة وإباحة القتل والتدمير من جهة ثانية والفتك بالارث الحضاري من جهة ثالثة كل ذلك باسم الدين ويثيرون الفتن بإسم الدين وإسلامنا الحنيف منهم براء وأخلاق النبوة والرسالة التي جئت بها للعالمين منهم براء وأنت القائل يا سيدي يا رسول الله "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".
نعم، يا سيدي يا رسول الله إن هؤلاء في إنحراف منهجهم وسوادوية أفكارهم من خوارج هذا العصر يعتبرون وبالا على سماحة ديننا العظيم دين الرحمة والمساواة والعدل.
ويحضرني هنا موقف الشاعر اللبناني المسيحي المهاجر رشيد سليم الخوري الملقب بالشاعر القروي الذي دعي الى حفل بمناسبة المولد النبوي اقيم في مدينة سان باولو البرازيلية التي تعد أكبر مدن امريكا الجنوبية وطلب منه أن يلقي كلمة وأقتبس منها " أيها المسلمون .... اأيها العرب... ينسب أعداؤكم إلى دينكم كل فرية ...ودينكم من بهتانهم براء...ولكنكم تصدقون الفرية بأعمالكم وتقرونها بإهمالكم ...دينكم دين العلم...وأنتم الجاهلون...دينكم دين التيسير وأنتم المعسرون... يا محمد ... يانبي الله حقا...يا فيلسوف الفلاسفة...وسلطان البلغاء...ويا مجد العرب والإنسانية...إنك لم تقتل الروح بشهوات الجسد..ولم تحتقر الجسد تعظيما للروح...فدينك دين الفطرة السليمة...وإني موقن أن الانسانية بعد أن يئست من كل فلسفاتها وعلومها، وقنطت من مذاهب الحكماء جميعا: سوف لا تجد مخرجا من مأزقها وراحة روحها....وصلاح أمرها إلاّ بالارتماء بأحضان الاسلام....وعندئذ يحق للبشرية أن تنشد:
عيد البرية عيد المولد النبوي في المشرقين له والمغربين دوي
عيد النبي ابن عبد الله ما طلعت شمس الهداية من قرآنه العلوي
يا فاتح الأرض ميدانا لدولته صارت بلادك ميدانا لكل قوي
يا قوم هذا مسيحي يذكركم لا ينهض الشرق إلاّ حبنا الأخوي
فإن ذكرتم رسول الله تكرمة فبلغوه سلام الشاعر القروي
ومن الجدير أن أتناول هنا جانبا مهما يتمثل بما قاله المنصفون من غير المسلمين عن سيدنا محمد بعد دراسة سيرته العظيمة ممن أعجبوا بشخصية سيد البشرية، ومع كونهم لم يدخلوا دين الإسلام ولم يرتدوا عباءته إلاّ أن أقلامهم لم تصمد أمام صفات وأخلاق ومعجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطرّت حروفا من نور وشهدت شهادة حق سطرّها التاريخ: حيث قال الأديب الانجليزي جورج ويلز: "محمد أقوى من أقام دولة للعدل والتسامح"، وقول غاندي: "محمد يملك بلا منازع قلوب ملايين البشر"، وذلك الفيلسوف والمفكر تولستوي الذي قال: "شريعة محمد ستسود العالم لانسجامها مع العقل والحكمة".
والجانب الآخر في رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الشاملة انها لم تغفل بناء الانسان سلوكا وتهذيبا وعقلا وصحة حيث أن تعاليم الإسلام كلها تدفع إلى المحافظة على الصحة والارتقاء بها في كافة المجالات ليعيش الإنسان حياة سعيدة طيبة، وأن العلم الحديث جاء مؤيدا للأحاديث النبوية الشريفة ليلتقي العلم والإيمان معا وأن الرسالة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي رسالة العلم والتنوير والحضارة.
إن الحديث عن حضرة سيد البشرية يطول ولا ينتهي، لإن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم جسّد رسالات السماء التي ابتدأت مع النبي ادم عليه السلام لتلخص مسيرة كل الأنبياء في شرائعهم وتعاليمهم وأهدافهم فكان النبي محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل لتكون معه رسالة الإسلام خاتمة الرسالات وملخصة أهدافها ومحققة تعاليمها، فالإسلام حفظ كل الرسالات وإستكمل رسالة كل الانبياء حتى كان شريعة السماء الكاملة على الأرض اذ أرسى منظومة إيمانية وتشريعية وأخلاقية كاملة تدخل في تفاصيل الحياة العامة والخاصة وتلبي حركة التطور الحضاري للبشرية في مسيرتها نحو المستقبل.
وأخيرا وليس آخرا حمى الله أردننا الغالي وقيادتنا الهاشمية الحكيمة، وأعاد الله هذه المناسبة ونحن على درب المصطفى سائرون وعلى نهجه القويم مهتدون وأن ينعم الله على وطننا بالخير والازدهار وعلى أمتنا بالسؤدد والصلاح وهدوء البال والاستقرار.
*كاتب واستاذ جامعي/ جامعة العلوم والتكنولوجيا الاردنية
عميد كلية الصيدلة في جامعتي اليرموك والعلوم والتكنولوجيا سابقا
رئيس جمعية أعضاء هيئة التدريس سابقا.