اهتم الإنسان منذ زمن بعيد بتوليد نباتات محسنة عن طريق إحداث طفرات وراثية. ومنذ خمسينيات القرن الماضي، تم تنفيذ العديد من البرامج باستخدام الوسائل النووية، التي تعتمد على الأشعة السينية وأشعة جامة والنيترونات السريعة، أدت إلى إنتاج ما يزيد عن 3400 نوع محسن من 200 نوع مختلف من المحاصيل، في 70 دولة (المصدر الوكالة الدولية للطاقة الذرية 2023)، والتي أدت بدورها إلى إحداث ثورة كبيرة في الإنتاج النباتي، تدر دخلًا إضافيًا على المزارعين في انحاء العالم، بتريليونات الدنانير، في كل عام. إن أهم التحسينات الوراثية النباتية التي يمكن تحقيقها بسهولة باستخدام الوسائل الإشعاعية، تشمل ما يلي:
أولًا- تبكير موسم نضج النبات في الحقل، لتلافي تقلبات الطقس ومواسم الانجماد والفيضانات والأعاصير أو والحرارة المرتفعة، الضارة بالمحاصيل؛ أو لإخلاء الأرض مبكرًا للتمكين من إعادة زراعتها مرتين أو ثلاث مرات، في السنة الواحدة..ثانيًا- زيادة مقاومة النباتات للأمراض والآفات الزراعية، ما يفيد في تكثير الإنتاج، وتقليل الاعتماد على الكيميائيات والمبيدات الحشرية، الضارة بالصحة والبيئة... ثالثًا- توليد نباتات أكثر إنتاجية وأجود ثمارًا وأسرع نضجًا، في الطهي، وأسهل جنيًا وأكثر ملائمة للظروف البيئية الصعبة، كالرطوبة والبرودة والجفاف وشدة الحر وقلة مصادر المياه والملوحة ...الخ، والتضاريس الجغرافية المختلفة، كالجبال والأودية والأراضي الصخرية والمساحات الضيقة من الأرض... رابعًا- تحسين خصائص البذور والثمار لزيادة القيمة الغذائية في النبات، كالزيت ونسبة البروتين، وزيادة حجم الثمرة وتحسين لونها ومظهرها وطعمها، وتحسين خصائص الحفظ والإذابة، وزيادة نسبة العصير فيها...خامسًا- تحسين الشكل الهندسي للنبات؛ كالتقزيم الذي يفيد في زيادة إنتاجية المساحات المحدودة من الأراضي؛ وتسهيل عملية الحصاد والجني، ولزيادة تعريض الثمار لضوء الشمس، وضمان غلة أفضل وثمار أفضل وأغنى. ولزيادة كمية التبن والكلأ (كما سنرى في مقال لاحق عند الحديث عن تحسين الإنتاج الحيواني)ومن الأمثلة على النجاحات الباهرة ذات الأثر الاقتصادي الكبير، والمؤثر، في مجال الإطفار، أو تحسين أنواع النبات بالطفرات الوراثية الإشعاعية، نذكر أنه في الباكستان مثلًا، تم في عام 1983 إطلاق نوع محسن من الأرز، للمزارعين لاستخدامه بذارًا ، يسمى بسمتي أو بسمة كشمير، يمتاز بنكهة طيبة وسرعة النضج أثناء الطهي وذي قيمة بروتينية مرتفعة. كما أدخلت باكستان تحسينًا كبيرًا على محصول القطن، بحيث أصبح القطن الباكستاني سلعة استراتيجية ومنتَجًا منافسًا على الأسواق العالمية، مما ضاعف عائدات البلاد من هذه السلعة إلى الضعف، وأدى إلى زيادة الإنتاج منها بمقدار 1600 مليون دولار، في موسم 1988 / 1989، وحده. وجعل الباكستان في طليعة الدول المصدرة للقطن في العالم، حيث بلغ الدخل القومي من هذه المادة وحدها في ذلك الموسم 4 مليار دولار. وهي اليوم من أكبر تسع دول مصدرة للأرز في العالم، بواقع 10 مليون طن سنويًا؛ وخامس دولة منتجة للقطن في العالم، بواقع 2.3 مليون طن في موسم 2020/2021. وفي بنغلاديش طور العلماء 85 صنفًا محسنًا من النباتات المقاومة للرطوبة والجفاف والملوحة والمقاومة للتغير المناخي والاحتباس الحراري وزيادة هطول الأمطار والأعاصير المدارية الحلزونية، والطبيعة المنخفضة للأراضي البنغالية حيث ما يزيد عن ثلثي مساحة البلاد تحت مستوى سطح البحر،. وطورت صنفًا من الأرز المحسن ينتج الهكتار منه سبعة أطنان بزيادة 75% عن المعدل العالمي لإنتاج الهكتار، وفي زمن قياسي 4 سنوات مقارنة مع الزمن العالمي لإنتاج الطفرات الزراعية من 8- 12 سنة؛ وتضاعف إنتاجها من الأرز 3 أضعاف، فأصبحت اليوم ضمن الدول الثلاثة الأولى المصدرة للأرز، في العالم بواقع 36 مليون طون في السنة. وعلى مستوى أكبر حققت الصين نتائج فوق العادة، في مجال تحسين أنواع النبات، وطورت نوعًا من الأرز ينضج قبل موسم حصاده بنحو شهر، ونوعًا آخر سوقه أقصر بعشرين سنتيمتر ونوعًا ثالثًا يمتاز بمحتوى بروتيني عال. هذا بالإضافة إلى مئات الإنجازات الزراعية، كان لها أكبر الأثر في إحداث نهضة زراعية كبرى، ساعدت في سد حاجة المليار ونصف من المواطنين الصينيين من المواد الغذائية، وتحقيق فائض هائل، جعلها تحتل المرتبة الأولى في العالم في تصدير هذه السلعة، بواقع 149 مليون طن، عام 2022. وعلى مستوى التجارب الصغيرة للشركات وجماعات المنتجين، في جمهورية بنين، تمكنوا من زيادة محاصيل الذرة بنسبة 50% وتخفيض كميات الأسمدة المستخدمة بنسبة 70%، عبر تقنية تثبيت النيتروجين من الجو؛ وتحقق وفر جراء ذلك 36 مليون دولار في كل موسم.وفي الأردن، اهتمت وزارة الطاقة والثروة المعدنية (دائرة الطاقة النووية) مبكرًا بموضوع استخدام الوسائل النووية في تحسين الإنتاج النباتي. فأنشئ في تسعينيات القرن الماضي قسم للزراعة النووية، كان يضم نخبة من المختصين المدربين، وكان يتابع نشر استخدام هذه الوسائل، في المملكة بالتعاون مع وزارة الزراعة ومركز بحوث الزراعة ونقل التكنولوجيا، والجامعات. وقام القسم المذكور بتنفيذ بواكير تجاربه لتحسين أنواع النباتات ذات القيمة الاقتصادية مثل القمح والعدس والزيتون. ولقد أسفر مشروع نفذ بالتعاون بين دائرة الطاقة النووية وجامعة العلوم والتكنلوجيا، عن ثلاث طفرات مفيدة في نبات العدس، هي: زيادة حجم النبات من 15 سم في المعدل في النبات الشاهد (أو الأصيل) إلى 45 سم في النبات المحسن، ما يفيد في تحسين الشكل الهندسي للنبات وتسهيل عملية الحصاد وزيادة كمية التبن؛ وزيادة كمية الإنتاج 5 مرات، من 18 حبة في البيت الأصيل إلى 90 حبة في البيت المحسن؛ وتبكير زمن النضج في الحقل بثلاثة أسابيع، بما يفيد في تجنب تأثير رياح الخماسين الضارة للإزهار. وجرى تشعيع البذور في هيئة الطاقة الذرية السورية، في المرة الأولى، ما حفزنا إلى إنشاء مشروع مشعع كوبالت- 60، لإنتاج أشعة جامة التي تستخدم في إحداث الطفرات، بقدرة 10 آلاف كيوري، في المرحلة الأولى، شيد في حرم مباني سلطة المصادر الطبيعية في البيادر؛ ومشروع ثان بقدرة 100 ألف كيوري، وأصبحنا نستخدمهما، في التشعيع وتوفير هذه الخدمة وفي البحث العلمي لدائرة الطاقة النووية وللمؤسسات والجامعات، ولا يزال هذا المشروع، الذي شيد في حرم مختبرات الطاقة النووية في شفا بدران، يشكل حجر الأساس في عمل هيئة الطاقة الذرية (بعد ذلك) في البحث العلمي في هذا المجال ومجالات حيوية أخرى. كما أخذت دائرة الطاقة النووية الموافقات الرسمية، من الحكومة الأردنية ووزارة الزراعة لإنشاء مركز عربي، مشترك، للزراعة النووية في عمان، بالتعاون بين الأردن والهيئة العربية للطاقة الذرية، إحدى منظمات العمل العربي المشترك، في الجامعة العربية. ومما يجدر التذكير به أن هذه التقنية، كما ذكرنا في المقالات السابقة، تمتاز بأنه يمكن توفيرها والتدرب عليها بسهولة، ولا يوجد خطر لوقوع حوادث مدمرة، ولا تستهلك المياه ولا تطلق إشعاعًا في البيئة؛ وغير مكلفة؛ وتشير معلومات الوكالة الدولية الذرية (2023) أنها تدعم 200 مشروع لمساعدة الدول الأعضاء على تحسين القطاع الزراعي باستخدام التقنيات النووية، بواقع 14 مليون دولار، أي بمعدل 70 ألف دولار للمشروع الواحد.يتبع الطاقة النووية (9): التطبيقات النووية في الزراعة والأغذية (في مجال تحسين الثروة الحيوانية والإنتاج الحيواني)
الطاقة النووية (8): التطبيقات النووية في الزراعة والأغذية (في مجال تحسين الأنواع)
الدكتور علي المر
مدير الطاقة النووية الأسبق
الطاقة النووية (8): التطبيقات النووية في الزراعة والأغذية (في مجال تحسين الأنواع)
الدكتور علي المر
مدير الطاقة النووية الأسبق
مدير الطاقة النووية الأسبق
مدار الساعة ـ